عرب إسطنبول: هل من تغيير بعد الانتخابات؟
عدة زوايا يمكن أن يُقرأ منها واقع الوجود الأجنبي، وخصوصا العربي، في إسطنبول. الأولى، ما لا يختلف عليه أي أحد من قاطني هذه المدينة، أنها تكاد تكون قد وصلت لطاقتها القصوى في الاستيعاب، على الرغم مما جرّبته من حيل من أجل السيطرة على الكثافة السكانية التي تضغط بالضرورة على جميع الخدمات.
مما جرى القيام به لتخفيف الإحساس بالازدحام كان إيجاد مجمّعات سكنية طرفية وتشجيع الناس على الانتقال إليها، بجانب ذلك فعلت الولاية، التي تنافس ولاية أنقرة من ناحية الأهمية، الخدمات المحوسبة والتطبيق الخاص بالحكومة الإلكترونية الذي يغني عن الانتقال الشخصي إلى المنافذ الرسمية، ويسهل استخراج أغلب الأوراق الحكومية عبر الهاتف أو الحاسوب الشخصي. إلا أن هذا كله لم يكف، فحتى مع انتشار مجمّعات التسوق والمستشفيات والمدارس في كل بقعة تقريباً، إلا أن الناس كانوا لا يزالون يحتاجون للانتقال بين أطراف المدينة لأغراض العمل، أو لأي غرض آخر.
لم يبدُ التوسع في المواصلات العامة أيضاً، على ما يقدّمه من تسهيل، كافياً، فكان يظهر أن المدينة، التي تعتمد نسبة كبيرة من ساكنيها على وسائل النقل العامّة، تحتاج إلى مزيدٍ من خطوط الحافلات ومحطّات المترو، التي يتم افتتاح مزيد منها كل بضعة أشهر. حتى المشروع الثوري، الذي يطلق عليه اسم "ميتروباص"، لجمعه بين شكل الحافلة وسرعة المترو، ويربط بين جانبي المدينة الآسيوي والأوروبي، وينطلق على مدار الدقيقة الواحدة، لم يعد كافياً أمام تدفقات الركاب، الذين بات معظمهم لا يجدون مقعداً فارغاً في رحلةٍ قد تمتدُّ أكثر من ساعة.
أغلب الأجانب يفضلون الإقامة في إسطنبول دون غيرها من المدن والولايات
جعل هذا الواقع سياسة تخفيف أعداد المهاجرين والأجانب متقبلة لدى كثيرين، فإذا كان من المعروف استقبال تركيا ملايين الوافدين، فإنه يجب أن نعرف أيضاً أن أغلب هؤلاء يفضلون الإقامة في إسطنبول دون غيرها من المدن والولايات. بجانب هذه الحقيقة، تبرز حقيقة براغماتية أخرى، أنه لا يمكن بأي حال تصوّر أن سياسة التخفيف هذه ستمتدّ إلى المواطنين الأتراك، فهذا شيء لا يسنده منطق، فالمفهوم أنها ستكون موجهة إلى الأجانب، وأنها ستهدف إلى تشجيعهم على اختيار مدينة أخرى للإقامة، إذا لم يكن لبقائهم مبرّر مقنع.
زاوية أخرى يصعب إنكارها، أن الوجود الأجنبي، بشكل أخص العربي الذي يتصدّره السوريون، كانت له عدة مساهمات في الحياة الثقافية والاجتماعية التركية. حدث كبير ومهم مثل معرض إسطنبول للكتاب العربي، مثلاً، والذي يعد أهم المعارض خارج حدود العالم العربي، ما كان يمكن له أن ينجح هذا النجاح لولا احتضان إسطنبول هذه الأعداد من المهاجرين العرب. يمكن قول الشيء نفسه في موضوع طفرة السياحة التي استفادت بشكل لا يمكن إنكاره من المترجمين العرب ومن شركات الترويج والخدمات، التي وظفت المجيدين للغة العربية، والذين مضى بعضهم إلى إنشاء مشاريع خاصة، وترويج السياحة التركية وما يرتبط بها من فنادق ومواصلات، خصوصا في العالم العربي.
ليس من النادر في إسطنبول أن تقابل شخصاً مقيماً فيها نحو عشر سنوات، لكنه لا يكاد يتحدّث التركية
من خلال أمثلة كثيرة لا يمكن التوسّع في التطرق إليها، وتشمل على سبيل المثال فقط الاستثمار العقاري والفنادق والمطاعم والمكتبات العامة ودور النشر والعمالة الماهرة، يمكن القول إن السوريين وغيرهم من المقيمين العرب استطاعوا تلوين الحياة في المدينة، التي كانت على مر تاريخها جامعة للثقافات والأديان والأعراق، والتي ما زال الزائر والمقيم يتلمسانها في شوارعها وأنحائها ظلالاً حضارية من الشرق والغرب.
هل كان الوجود العربي كثيفاً أكثر من اللازم في بعض الأماكن؟ تجيب السلطات المحلية عن هذا السؤال، وهي لا تتحدث عن العرب في الغالب وإنما عن مجمل الأجانب، وإجابتها: نعم... لحل هذه المشكلة التي تضعف أيضاً اندماج الوافدين، تم ابتكار خطّة "المناطق المغلقة"، وهي تتلخّص في تخيير طالبي الإقامة الجدد بين بعض المناطق دون غيرها، مع استبعاد المناطق ذات الكثافة الأجنبية. هذا يشمل من يرغب بشراء عقار أيضاً، فمن أجل ضمان الحصول على إقامة عقارية، عليك التأكد من أن البيت في نطاق المناطق "المفتوحة"، أي التي تحوي أعداداً أقل من الأجانب.
ليس من النادر في إسطنبول أن تقابل شخصاً مقيماً فيها نحو عشر سنوات، لكنه لا يكاد يتحدّث التركية. تلك هي إحدى نتائج السكن في مجموعات متقاربة، الأمر الذي كان على الدوام مطلوباً بالنسبة للقادمين، الذين كانوا يرغبون في أن يكونوا بالقرب من معارفهم، أو الذين كانوا يعتبرون أن بقاءهم لن يطول.
على الرغم من طمأنة التصريحات الرسمية أنّ هدف كل قانون هو التنظيم فقط، إلا أن عرباً كثيرين يشعرون بالاستهداف، كما تثير حفيظتهم قراراتٌ مثل منع كتابة اللافتات باللغة العربية
لدي تجربة شخصية هنا، ولعلها تشابه تجارب كثيرين، تأخّري عن تعلّم اللغة التركية بسبب كوني محاطاً بأصدقاء عرب كثيرين كانوا يساعدون في الترجمة وفي الإجراءات ذات الصلة، كما أن منطقتي، ومثلها مناطق كثيرة في إسطنبول، لم تكن تخلو من مركز طبّي عربي وسائق أجرة عربي ومدرسة عربية وغيرها.
على الرغم من طمأنة التصريحات الرسمية وإعلان أن هدف كل قانون هو التنظيم فقط، إلا أن عرباً كثيرين يشعرون بالاستهداف، كما تثير حفيظتهم قراراتٌ مثل منع كتابة اللافتات باللغة العربية، أو تقييد السكن، خصوصا بالنسبة للاجئين، والتي يرون فيها دليلاً على انتشار العنصرية.
يشير كثيرون اليوم للتأثيرات السلبية للتضييق على استخراج الإقامة، والتي تتمثل في اهتزاز سوق العقار واختفاء العمال وقلة الإقبال على المدارس العربية وعلى مدارس تعليم اللغة التركية، التي ازدهرت بسبب الوجود الأجنبي في السنوات الماضية. يتساءل هؤلاء عما إذا كان بالإمكان أن يحدُث بعض التغيير، إذا ما تم استبدال والي إسطنبول الحالي، المنتمي لحزب الشعب الجمهوري، بشخصية أخرى في الانتخابات المحلية المرتقبة.