عراقيون بين طلب الموت أو انتظار غودو

23 اغسطس 2023
+ الخط -

حاول مهندس عراقي شاب (29 عاماً)، الانتحار بتناوله كومة حبوب طبّية، وقد سقط إثر ذلك على الأرض فاقداً الوعي. ولحسن حظه عاجلته أسرته بنقله الى المستشفى وإنقاذه، وأقرّ بأنه اختار الموت بغرض إنهاء معاناته التي لم يجد لها حلاً، فقد تخرّج من الجامعة مهندساً، وكان يأمل بأن يدخل سوق العمل بعد تخرّجه، لكنّه فشل في تحقيق ما كان يأمله، واكتشف أنّ الأبواب مغلقة في وجهه، ولم يجد بداً من التفكير في الانتحار. وقد أثارتني عبارته الأخيرة: "حتى ملك الموت تخلّى عني وتركني".

تحمل هذه الحكاية قدراً مهولاً من المرارة، فهي ليست من نمط الحكايات المثيرة التي نُغمض عيوننا عنها لأنّها تكدّر صفو جلساتنا، أو نمر عليها مرور الكرام ثم ننصرف إلى اهتماماتنا اليومية وكأن شيئاً لم يكن، وهي أيضاً ليست واقعة متفرّدة معزولة، فمثل هذا المهندس الشاب في عراق اليوم آلاف الخرّيجين الشباب الذين يقفون على حافّة اليأس، باحثين عن الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش في بلدٍ وهبته الطبيعة من الثروات ما يؤهّله لأن يكون من أسعد بلدان الله، لكنها نكبته، في المقابل، بحفنةٍ من السرّاق والأفاقين والقتلة الذين تواطأوا مع الأجنبي على سرقة ثرواته واغتيال حقّه في العيش بكرامة وإباء.

تحيلنا هذه الحكاية أيضاً إلى ما يرشح من تقارير وإحصائيات، بعضها صادر عن مراكز علمية رصينة، وحتى عن جهاتٍ حكوميةٍ معلومة، تفيد بأنّ ظاهرة طلب الموت هذه لم تعد تقتصر على هذه الفئة العمرية أو تلك، وإنما شملت نساء ورجالاً من مختلف الأعمار، وتؤكّد تصاعد أرقام طالبي الموت إلى درجة اعتبارها خطراً على المجتمع العراقي على نحو لم يكن مألوفاً. وكان تقرير رسمي قد أحصى 13 واقعة انتحار فقط في العام الذي سبق الاحتلال (2002)، فيما تصاعد العدد على نحو مريع بعد ذلك. وحسب وكيل وزارة الداخلية، اللواء سعد معن، بلغ عدد وقائع الانتحار 376 في عام 2015. وظل العدد يكبر باطراد حتى بلغ 772 حالة في 2021. وينبه الخبير الأمني المختصّ رياض هاني بهار، في بحث منفصل، إلى أنّ عدد وقائع الانتحار بلغ ذروته في العام الماضي (2022)، إذ تم تسجيل 1073 واقعة، عدا تلك التي لم يجر الإبلاغ عنها لسببٍ أو لآخر.

آلاف الخرّيجين الشباب في العراق يقفون اليوم على حافّة اليأس، باحثين عن الحد الأدنى من مقوّمات العيش في بلدٍ وهبته الطبيعة من الثروات ما يؤهّله لأن يكون من أسعد بلدان الله

تعترف اللجنة القانونية في البرلمان بأنّ "التدهور الأمني والاقتصادي والتفكّك الأسري وتعاطي المخدّرات عوامل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالانتحار". وبحكم قاطع لم تشأ اللجنة أن تصل إليه، النظام السياسي الهجين الذي ولد بعد الاحتلال، وامتد أكثر من 20 عاماً، هو المسؤول الأول والأخير عن هذه الظاهرة، وسياسات هذا النظام وممارساته على مختلف الأصعدة هي التي ضاعفت حجم الظاهرة وكرّستها معلماً ثابتاً للمجتمع العراقي لا ينكره اثنان.

والذين فكّروا ويفكّرون بالانتحار كان النظام نفسه قد قتلهم مرّات قبل أن يقدموا على طلب "رصاصة الرحمة" التي تكفل إنهاء معاناتهم المديدة من الفقر، أو الجوع، أو المرض، أو بسبب حرمانهم من حقوقهم الإنسانية التي كفلتها لهم كلّ الشرائع، وإصرار حكّامهم على إذلالهم واغتيال طموحاتهم وتطلعاتهم.

على النقيض من ذلك، نرى عشرات الألوف ممن استمرأوا حياة الذلّ بعدما أغرقهم النظام بدعاوى انتظار غودو الذي يجيء ولا يجيء، وتراهم يزحفون على ركبهم خانعين كي ينالوا مرضاة مرجعياتهم القابضة على عقولهم، وهم يهتفون "هيهات منّا الذلّة"، ولا يدركون أنهم بأفعالهم هذه يشرعنون الذلّة الأبدية لنفوسهم، ويمنحون النظام الذي ظلمهم ونهب ثرواتهم وسلب حقوقهم وعمل على تجهيلهم شهادة عفو ومغفرة، ويطيلون في عمره. وقد وقع هؤلاء، بحكم وضع التديّن الزائف المحيط بهم، في خطيئة الانحناء أمام ضربات السلطة، وربما التواطؤ مع ارتكاباتها على نحو مفزع حقّق لقادة المليشيات وزعماء المافيات الهيمنة على الثروة والمال والقرار، وبما يخدم نظام "ولاية الفقيه" الذي يمنحهم السند الكفيل بحمايتهم مهما ارتكبوا من أفعال شرّيرة ضد أبناء جلدتهم.

وسط هذه التناقضات الصارخة يتسع لدى المواطنين العاديين الشعور بالإحباط وخيبة الأمل جرّاء كل الأساطير والأكاذيب والولاءات الشريرة، وتنعدم لديهم الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة وبما تعدهم به من ديمقراطيةٍ وانتخابات ومجالس وأحزاب، حتى باتت عملية تجذير وعيهم على الظلم الذي يحيق بهم مسألة دونها خرط القتاد، وتلك هي أم المصائب التي يمكن أن تواجه بلدا ما.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"