عبث التجنيد الإلزامي
واحدة من القصص المثيرة التي انتشرت في النصف الثاني من عقد التسعينيات، للدلالة على اتساع ظاهرة الفساد في العراق آنذاك، تتحدّث عن محكومٍ بالإعدام استطاع أهله استبداله بأحد المرضى النفسيين، الذين جلبوه من مستشفى الرشاد للأمراض العقلية في بغداد، وأعدم مكان المجرم المدان، وهذا الأخير حصل على هوية جديدة، واستطاع الفرار بها خارج العراق.
يمكن أن نتخيّل بسهولة أن هذا المجرم المدان عاد إلى العراق بعد 2003 لينجح في الحصول على موقع ما داخل مؤسسات الدولة الجديدة، ثم ليظهر في التلفزيون ليحاضرنا عن الفساد وضرورة مكافحته في "العراق الجديد".
هذه الفرضية الخيالية التي تنفع لعمل أدبي ربما ممكنة جداً، لأن العراقيين تعوّدوا على مواجهة ما يشبهها خلال السنوات التسع عشرة الماضية، فليس غريباً أن لأكثر الفاسدين من السياسيين تسجيلات في مقابلات تلفزيونية يشتمون فيها الفساد ويطلبون محاربته. والأمر يتكرّر مع سياسيين نخروا بفسادهم وصفقاتهم المشبوهة المؤسّسة العسكرية من الداخل، وجعلوها غير قادرة على مواجهة عصابات إرهابية أسقطت ثلث العراق بسهولة، ليطالبوا اليوم بتشريع قانون الخدمة الإلزامية في الجيش العراقي، دعماً للقوات المسلّحة. وهو أمر لم يأخذ وقتاً من المتابعين العراقيين، ليجزموا أن هذا القانون، فيما لو طبّق، سيكون بوابة فساد هائلة جديدة.
أمرٌ مثيرٌ أن يتحدّث سياسيون لهم أذرع عسكرية مسلّحة خارج نطاق الدولة، عن ضرورة تشريع قانون الخدمة العسكرية الإلزامية من أجل تعزيز الروح الوطنية لدى الشباب العراقيين، هؤلاء الساسة الذين كانوا أكبر المستفيدين من انهيار المؤسسة العسكرية، وجعلوا مليشياتهم بديلاً عن المؤسسات الأمنية الرسمية. كما أن المفارقة لا تكتمل إلا بالانتباه إلى تفصيلة "الروح الوطنية"، فمن يتحدّث بها أبعد ما يكون عن الروح الوطنية التي لا تنسجم مع موالاته عقيدة تربطه بعلاقة التابع بالسيد مع دولة مجاورة.
كما أن الحديث عن فائدة التجنيد الإلزامي لبثّ الروح الوطنية في الشباب العراقيين يتحوّل إلى نكتة سمجة، بعد ثلاث سنوات على أكبر تظاهرة للروح الوطنية للشباب العراقيين التي فاجأت الجميع في احتجاجات تشرين الأول 2019. لقد قدّم الشباب مع هذه الانتفاضة عرضاً وطنياً ضد طائفية الطبقة السياسية الحاكمة في العراق وانغلاقها وعنصريتها، وعلى الرغم من نجاح هذه الطبقة بإدارة ثورة مضادّة لانتفاضة تشرين، والثبات في كرسيّ السلطة، إلا أن جرأة هؤلاء الفاسدين والمجرمين وعملاء الخارج على محاضرتنا عن الروح الوطنية شيء يتجاوز أي مفارقة ممكنة.
يبدو الأمر كلّه لبعض المراقبين وكأنه مخطّط لإلهاء الشباب الذين يمثلون خطراً على مصالح التكتل الحزبي الحاكم، عن الاهتمام بقضايا الشأن العام، من خلال إدخالهم في مواجهة مع معركة مختلفة، بعيدة عن بوابات المنطقة الخضراء، حيث الموقف من الخدمة العسكرية، ومعسكرات التدريب، وما إلى ذلك من تفاصيل يعرفها جيداً من كان يخدم في الجيش العراقي السابق أيام نظام صدّام. هذا فضلاً عن أن المؤسسات الأمنية العراقية المختلفة تعاني من تخمةٍ في توظيف المنتسبين، وتأخراً في مواكبة التطور التقني في قضايا الأمن والدفاع، كما أن إجبار ملايين الشباب على الالتحاق بمعسكرات التدريب سيكون صعباً ومكلفاً من دون قوّة أمنية عسكرية خاصّة، وهذه كلها دوّامات فوضى جديدة لا علاقة لها بالأهداف التي يفترض أن تسعى لها دولة متداعية ومتأخرة مثل الدولة العراقية اليوم.
بدلاً من الأموال التي يمكن أن تنفق على مشروع عبثي من هذا النوع هناك قطاعات كثيرة تحتاج تخصيصات مالية عاجلة، وخططاً للنهوض بها والالتحاق بمستويات التنمية المعقولة المتوفرة لدول كثيرة. بدلاً من تضييع سنوات من عمر الشباب في الروتين العسكري غير المثمر، يحتاج كثيرون منهم إلى إنفاق أموال من أجل تطوير مؤهلاتهم للتكيف مع حاجات سوق العمل. ويحتاجون، قبل ذلك كلّه، حكومة تخطّط لتحرير سوق العمل من سطوة الفساد وسيطرة الجماعات المسلحة الخارجة على القانون، فهذان هما الأولوية القصوى لأي حكومةٍ ونظام سياسي يحترم نفسه في بلد يعيش ظروفاً كارثية كما العراق اليوم.