طوفان الأقصى يهزّ عرش الصهاينة والمطبّعين

طوفان الأقصى يهزّ عرش الصهاينة والمطبّعين

13 أكتوبر 2023
+ الخط -

استيقظ العالم على وقع طوفان مدمّر لم يسبق له مثيل في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وفي سجلات الكيان الصهيوني الغاضب، طوفان الغضب الشعبي الفلسطيني تترجمه فصائله العسكرية، وفي مقدمتها كتائب عزّ الدين القسام (الذراع العسكري لحركة حماس)، لتخطّ سطورا من ذهب في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، ولتدكّ عروشا لطالما اعتبرت حلم التحرير لكل الأراضي الفلسطينية وهما وضلالا، فالمواجهة الفلسطينية لم تعد مع محتلٍّ غاشم فحسب، بل هناك جبهة أخرى للصراع أشدّ وأعتى، وأكثر تدميرا نفسيا ومعنويا، إنها المواجهة مع أنظمة عربية رسمية هرولت نحو التطبيع مع الكيان المحتل، وقدّمت من الذرائع والتبريرات ما يعجز عاقلٌ عن الوثوق بها وتصديقها، ونالت من العطايا والوعود مقابل هذا التطبيع ما يندى له الجبين، ويرقى إلى الهوان والإذلال، فالمزايدة والتلاعب بقضية عادلة هو بمثابة الطعن في الظهر، والتشكيك في مسار نضالي كامل نحت بدماء الشهداء والجرحى، وحيك بمكابدة الأسرى، وبالمعاناة اليومية التي يعيشها الفلسطيني على أرضه مسلوب الإرادة والكرامة والسيادة، فيما تتاجر بحرّيته، وبحقّه في تقرير مصيره، أنظمة عربية محسوبة مناصرة ومساندة للقضية الفلسطينية، ما يمثل الجرح الأكثر إيلاما والأشد نزفا في تاريخ المقاومة الفلسطينية، فقد دأبت هذه الأنظمة في سالف عهدها على التنديد والشجب، وفي أقصى الحالات على الوعيد والتهديد. وكان هناك شبه ميثاق أخلاقي يعتبر الأرض الفلسطينية منتهكة ومسلوبة، ويقرّ بالحق الفلسطيني في اعتماد كل أساليب المقاومة والنضال المشروع، ويرفض رفضا قطعيا وباتّا التطبيع مع الكيان المغتصب بشتى أشكاله. وكانت القضية الفلسطينية أكثر القضايا، إن لم نقل وحدها، التي تجمع العرب وتوحدهم وتصوب بوصلتهم نحو هدف مشترك.

لكن الانقسام الفلسطيني الداخلي، ثم ما تلا الربيع العربي من عدم استقرار سياسي ونزاعات داخلية وأزمات اقتصادية ومالية وسقوط الحلم الشعبي العربي ببناء أنظمة ديمقراطية تعدّدية تحترم شعوبها وتجعل الإنسان محورا لها وتكون منطلقا لصحوة عربية ورقيّ في كل المجالات والميادين، هذان العاملان وغيرهما جعلا القضية الفلسطينية تتقهقر في سلم أولويات العالم العربي، وتفقد أحقيتها في الدفاع والنضال والحشد في كل المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ما جعل الشعب الفلسطيني وحيدا أعزل في مواجهة مصيره، وفي مقاومة الانتهاكات اليومية لأرضه ومقدّساته والاستباحة النكراء لدمه وعرضه. لم يبقَ له من سند ومن نصير سوى شعوب عربية، هي أيضا منكوبة ومسحوقة، في معظمها توارثت القضية جيلا عن جيل، وحفظتها من النسيان والتعتيم، ودسّتها في أعماق الوجدان العربي، وحصّنتها من كل متاجرة أو مقايضة، وظلّت تراقب كياناتها الرسمية المطبّعة التي لا تشبهها ولا تمثلها، بقلب موجوع وعين دامعة تخشى البوح والمجاهرة، لأنها تدرك أنها ترزح تحت وطأة أنظمةٍ قاهرة مستبدّة، لا تؤمن بحرية القول والتعبير، بل تقمع وتردع كل من تسوّل له نفسُه أن يفصح عن مكنون نفسه، وتنفيه في غياهب السجون، لتجعله عبرة لمن يعتبر، أنظمة يستوي عندها الذين يعلمون والذين لا يعلمون، همّها الأوحد الحفاظ على عرشها إلى أبد الآبدين، وإرضاء أسيادها الذين يحكمون العالم ويضمنون بقاءها وديمومتها ويمنحونها صكّ النجاة من الطوفان.

لن يعود الكيان الصهيوني كما كان، ولن يتشدّق مجدّداً بمناعة حصونه وبجاهزية أجهزته الاستخباراتية وبجيشه الذي قُهر فعلاً

ولكن هيهات أن ينجو عرش دكّه "طوفان الأقصى"، فهذه الأنظمة المطبّعة تجد نفسها اليوم في حرج كبير بشأن الموقف الذي ستّتخذه، وقد تهاوت كل أوهام الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، ودوّت على مستوطناته صواريخ فلسطينية، وداست على الأرض التي سلبها أقدام فلسطينية تقاتل وتأسر وتدمّر، وتحصد النجاحات الباهرة التي عجز العدو عن تصديقها جرّاء قوة المباغتة والحيلة والتكتيك الحربي الذي أذهل الجميع وأبهرهم وصدمهم، وهل تملك هذه الأنظمة أن تتّخذ موقفا أو تصوغ قرارا، وهي الخاضعة لمشيئة أرباب نعمتها والمرتهنة لأوامرهم وتوجيهاتهم؟ هل تملك أن تستفيق من غفوتها وتعبّر عن توبتها، وأن تستوعب الدرس، وتعلن رجوعها إلى أحضان شعوبها، لتعكس تمثلاتهم وتطلعاتهم وعمق انتمائهم لمحيطهم العربي وإخلاصهم لقضيتهم الأم؟ لا أظنّ أنها قادرة على ذلك، لأنها أضاعت البوصلة، وانحرفت عن إرادة شعوبها، ولم تملك من الحصافة ورجاحة العقل، لتتمثل موازين القوى، ولتدرك أن صاحب الحق هو الأقوى والأبقى، طال الزمن أو قصر، وأن القوى العظمى ستسقطهم من حساباتها، حين ينتهي دورهم وتحين نهايتهم، وأن هذا الكيان الغاصب أوهن من بيت العنكبوت، بنى أسطورته على ضعف أعدائه وتخاذلهم وخوفهم، وهو غير قادرٍ على حماية بيته، فكيف له أن يحمي حلفاءه ويذود عن أصدقائه ويحافظ على حُماته؟

الأنظمة المطبّعة تجد نفسها اليوم في حرج كبير بشأن الموقف الذي ستّتخذه، وقد تهاوت كل أوهام الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر

أثلجت عمليات المقاومة في "طوفان الأقصى" التي اندلعت في غفوة من الضمير الرسمي العربي والعالمي صدور الشعوب العربية، وألهمتها الأمل والتفاؤل والحلم بالنصر، وجعلتها تدرك أن تحرير كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة ممكنٌ ومتاح، إذا تواصل الكفاح بالوتيرة نفسها، وبالثبات والإيمان والثقة بالنفس والقدرة على تعبئة كل القوى، وإذا تعدّدت جبهات القتال والنضال، لتشمل كل الفصائل المقاومة داخل فلسطين وخارجها، وإذا أحكم التنسيق والتشبيك بينها، فالخسائر التي تكبّدها الكيان الصهيوني طوال الأيام الماضية جعلته في وضع الدفاع لا الهجوم، وأربكته وأحرجته، وأدخلت الرعب إلى بيوته، وأقضّت مضاجع حكامه، وأعطت للمقاومة الفلسطينية أسبقيةً لا نظير لها في تاريخ الصراع الصهيوني الفلسطيني، وسط ذهول العالم وصدمته، فلا ريب، إذن، أن الكيان الصهيوني لن يعود كما كان، ولن يتشدّق مجدّدا بمناعة حصونه وبجاهزية أجهزته الاستخباراتية وبجيشه الذي قُهر فعلا، فمشاهد أسراه دكّت أركان الأسطورة التي بناها ودكّت مسامير نعش جبروته وطغيانه. لم يتعوّد أن يصعب عليه إحصاء قتلاه وجرحاه، وأن يُضرب قي عقر داره. لذلك لن يصمد طويلا، وسيدمّره الرعب والشك والريبة أسرع مما ستدمّره البندقية والصواريخ الفلسطينية، فهي حرب استنزاف طويلة الأمد على جبهات متعدّدة، ولن تجدي فيها الدعوات إلى ضبط النفس والتهدئة والعودة إلى الحوار، لأن ما افتُكّ (أُخِذ) بالقوّة لن يُستردّ إلا بالقوّة، ولأن القضية الفلسطينية إنسانية عادلة، تجسّد دفاعا مشروعا لشعبٍ يتوق للحرية، ولتقرير مصيره واسترجاع أرضه المسلوبة.

17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
17AF8564-3BED-45F2-91F9-62638915689F
نجيبة بن حسين

أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية

نجيبة بن حسين