طوفان الأقصى ونهاية سرديات الهزيمة والتشكيك

27 أكتوبر 2023
+ الخط -

أنهت معركة طوفان الأقصى التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى الأبد، سردياتٍ بائسة عديدة، طالما تخرّص بها بعض المهزومين نفسياً والمنسحقين حضارياً. أبرزها على الإطلاق، التشكيك في جدوى فعل المقاومة من الأساس، والتسفيه من قدرات الفصائل، والتهوين من أثر الأسلحة التي تمتلكها، ودعم رواياتٍ إسرائيليةٍ تقلّل من نتائج المواجهات السابقة. نتذكّر جميعاً أمثلة من هذه الأقاويل، من قبيل تشبيه صواريخ المقاومة بأن تأثيرها لا يتعدّى الألعاب النارّية.

لم تقتصر هذه السردية الهابطة عن المقاومة على تثبيط المعنويات، ونشر روح اليأس والخمول، بل كانت تمثل اعتداءً مباشراً على منطق التفكير السليم، لأن التشكيك اللحظي في جدوى الفعل المقاوم إنما يتجاهل قوانين ونواميس مستقرّة في الكون منذ قديم الأزل، فجميع تجارب التحرّر من الاستعمار في العالم استغرقت عقوداً طويلة من العمل والتضحيات، ومراكمة القدرات والإمكانات، فضلاً عن أثمانٍ باهظةٍ من الأرواح والممتلكات، يدفعها الشعب راضياً في سبيل حرّيته على مدار أجيال. لكن النتيجة النهائية تأتي حتماً بالتحرّر والاستقلال، وهذا ما لم يفهمه المثبطون، أو كانوا يفهمون لكنهم يتظاهرون بعدم الفهم، بهدف إقناع الأجيال الجديدة بأنه طالما أن ما يفعلونه في اللحظة الحالية لن يؤدّي إلى نتيجة مباشرة، فمن الأسلم عدم العمل نهائياً.

ويبدو أن الإنجاز الهائل الذي حقّقته المقاومة في "طوفان الأقصى" أفقد بعضهم صوابهم، وأثار جنونهم، فلم يكلّفوا أنفسهم عناء التفكير في البحث عن مبرّرات جديدة لمواصلة الحرب الدعائية ضد المقاومة، فلجأوا إلى الكلام المعتاد، إن قيادة المقاومة "تسكن في الفنادق"، مثلما قال صحافي سعودي معروف بعدائه الشديد للمقاومة، وهو قولٌ لم يعد يجلب إلا الضحك والسخرية، فقد اتضح تماماً أن معظم القيادات في غزّة، وتقود المعركة على الأرض، ويسري عليها ما يسري على شعبها، ولا تتّسع المساحة هنا لذكر عشرات القيادات الذين استشهدوا جرّاء العدوان الإسرائيلي خلال السنوات الماضية، أو استشهد أفراد بأكملها، أو أمضوا في سجون الاحتلال عشرات السنين.

معظم القيادات في غزّة تقود المعركة على الأرض، ويسري عليها ما يسري على شعبها

بينما حاول الصحافي المصري، إبراهيم عيسى، تشغيل عقله قليلاً، لعلّه يصل إلى اكتشافٍ جديدٍ يعينه على استمرار الهجوم على المقاومة، وهداه تفكيره العبقري إلى اختراع مطالباتٍ لم يتفوّه بها أحد، ثم الرد عليها، في محاولة لحشد المصريين المتخوّفين على تأثير ما يحدُث في فلسطين بأمن بلادهم، فزعم أن المقاومة تطلب من مصر شنّ حربٍ على إسرائيل بسبب قصفها على غزّة، وأنها تُزايد على موقف القاهرة من الأحداث أخيراً. وانطلق من هذه الكذبة، ليصول ويجول تشكيكاً في المقاومة وهجوماً عليها، مع ربطها بجماعة الإخوان المسلمين، التي شيطنتها الأنظمة العربية طوال العقد الماضي، ومؤكّداً أن الوطن العربي كله سيدفع ثمن أي مواجهةٍ مع إسرائيل! في استمرار للخطاب الانهزامي المنبطح نفسه. بينما الحقيقة أن أحداً لم يقدّم هذا الطلب من الأساس، بل أعربت قيادة المقاومة مراراً عن تقديرها الموقف المصري الحالي من الصراع، وتأكيدها لتطابق مواقفها معها.

في غمرة انفعاله على المقاومة، طرح إبراهيم عيسى سؤالاً مضحكاً عمّا إذا كانت المقاومة قد "استأذنت الشعب الفلسطيني" قبل إطلاق معركتها مع إسرائيل. وفقاً لهذا الكلام، على قيادة المقاومة، وهي ترى شعبها محاصراً منذ 16 عاماً، أن تنظّم استفتاءً على مستوى قطاع غزّة، لسؤال المواطنين: هل توافق على شنّ عملية عسكرية على الاحتلال؟ نعم أم لا؟! وفي هذه الأثناء تراقب إسرائيل هذا الاستفتاء بسعادة كبيرة، في ظل هذه الأجواء الديمقراطية الرائعة!

أخيراً، لا تزال بعض السرديات صالحة المفعول للاستخدام، بل انضمّت الولايات المتحدة نفسها إلى قائمة المستخدمين، وهو ما يعطيها قوة دفع، مثل القول إن "حماس ليست الشعب الفلسطيني"، وكأن الحركة هبطت على فلسطين من الفضاء، وكأن أبناءها ليسوا فلسطينيين. كذلك إن إمعان الاحتلال في جرائمه وقتل الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، قد يعيد إحياء سردية التشكيك في جدوى المقاومة في ظل عدم توازن القوى. ولذلك، يجب التنبّه إلى مثل هذه الأقاويل مستقبلاً.

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.