طوفان الأقصى: أين الصين؟
في اللحظة التي تحرّكت فيها حاملتا الطائرات جيرالد فورد وأيزنهاور دعمًا لإسرائيل، أرسل إلي أصدقاء عديدون سؤالًا يبدو استغاثيًا: أين الصين؟ وكأننا، نحن الفلسطينيين، نبحث عن أي حليف، ونفتش في دفاتر ذكرياتنا وقوائم الأرقام المسجّلة للأصدقاء القديمة. البحث عن الصين، في هذه الأيام التي يواجه فيها أهالي غزّة وسكّانها حرب إبادة مجنونة، مبرّر، والجواب على السؤال المرير ليس متوفّراً تماماً. يعتقد الأغلب أن الصين، وباعتبارها المنافس الأكبر للولايات المتحدة اليوم، سيكون لها دور كبير ومؤثّر في مواجهة الهجمة الغربية. هل إعادة إحياء قادة الحرب الباردة الأميركيين، أيزنهاور وفورد، سيعيد إحياء ماو؟ الإجابة: لا.
التزمت الصين الصمت يومين منذ عملية طوفان الأقصى، فلم تُبد أي ردّ فعل فوري، ولم يصدُر عنها أي تصريح رسمي. ثم عادت إلى موقفها المعهود والثابت الذي تتبناه منذ عام 1989، إدانة الأعمال العدوانية والعنف من الطرفين. منذ اليوم الثالث، نشرت وزارة الخارجية الصينية موقفها تجاه الأحداث الجارية على لسان الناطقين باسمها ماو نينغ ووانغ ون. حيث قالت ماو: "نحن نعارض التحرّكات التي تؤدّي إلى تصعيد الصراع وزعزعة استقرار المنطقة، ونأمل أن يتوقف القتال وأن يعود السلام قريبًا. ويتعيّن على المجتمع الدولي أن يلعب دورا فعّالا للمساعدة بشكل مشترك في تهدئة الوضع... ولإنهاء دائرة الصراع بين فلسطين وإسرائيل، من الضروري استئناف محادثات السلام وتنفيذ حل الدولتين وتسوية قضية فلسطين بشكل كامل وسليم من خلال الوسائل السياسية في وقت مبكر من أجل رعاية الحقوق المشروعة لكل طرف، وستواصل الصين العمل بلا هوادة مع المجتمع الدولي لتحقيق هذه الغاية... الأولوية الآن لإنهاء الأعمال العدائية واستعادة السلام في أقرب وقت ممكن والعمل معًا لتهدئة الوضع." وفي اليوم التالي، قال الناطق الثاني باسم وزارة الخارجية وانغ ون بين: "تولي الصين اهتماما وثيقا لتصعيد التوترات بين فلسطين وإسرائيل، ونحثّ جميع الأطراف المعنية على وقف إطلاق النار فورا، وستحافظ الصين على الاتصالات مع كل الأطراف، وستواصل العمل من أجل السلام والاستقرار في الشرق الأوسط." وقال، أيضًا، إن السبب الرئيسي لتكرار الأحداث هو انحراف عملية السلام في الشرق الأوسط عن المسار الصحيح، وتآكل أساس حلّ الدولتين، وعدم متابعة قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بحسن نيّة.
قام التطبيع الصيني - الإسرائيلي على خطاب واحد موحّد ومكرّر، دعم يهودية الدولة الإسرائيلية. وهنا تهزم الصين الحديثة تاريخها
الإختلاف البارز بين التصريحات الحالية والتي صدرت خلال الحروب والتصعيدات العسكرية السابقة، أن الصين كانت تنتقد السياسات الغربية في دعم إسرائيل، فقد اتخذت موقفا ناقدا وواضحا من الولايات المتحدة بسبب دعمها العسكري لإسرائيل. فعلى سبيل المثال، في معركة سيف القدس، قالت الصين إن واشنطن تقف على الجانب الآخر من المجتمع والعدالة الدولية وتدعم قتل المدنيين. وعندما تلقى وانغ سؤالا عن إرسال واشنطن حاملتي الطائرات جيرالد فورد وأيزنهاور إلى الشرق الأوسط، كان ردّه "تشعر الصين بحزن عميق إزاء الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين الأبرياء الناجمة عن التصعيد الحالي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ونشعر بقلق بالغ إزاء التدهور الشديد في الوضع الأمني والإنساني في فلسطين، ونشعر بالقلق إزاء التأثير الخطير للصراع المتصاعد على السلام والاستقرار في المنطقة. الأولوية الآن هي الوقف الفوري لإطلاق النار وحماية المدنيين. وعلى المجتمع الدولي أن يلعب دورا فعالا، وأن يعمل معا لتهدئة الوضع، وتقديم المساعدة الإنسانية في الوقت المناسب لشعب فلسطين". وبالتالي، لم يصدُر عن الصين أي شيء يدين الضوء الأخضر الذي قدّمه الغرب لإبادة الفلسطينيين في غزّة، بل ثمّة تراجع ملحوظ عن الموقف الذي شهدناه في معركة سيف القدس. وتفيد هذه التصريحات بأن الصين لا تريد العمل منفردة، بل تركز على أن دورها سيكون في إطار الجهود الدولية. ولكن السؤال المطروح هنا أنه لا توجد جهود دولية حقيقة لوقف العملية العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزّة. والغريب هنا أن الصين، الدولة الكبرى والعضو الدائم في مجلس الأمن، تنتظر "الجهود الدولية" عوض أن تبادر وتقوم بها.
لا يرقى الدور الذي تقوم به الصين إلى مستوى دولة عظمى تسعى إلى أداء أدوارٍ أكبر في الشرق الأوسط، وليس هذا الدور المتوقّع منها من الفلسطينين. لقد وضعت عملية طوفان الأقصى الصين أمام اختبار حقيقي، مثلها كمثل باقي القوى العظمى، أين تصطفّ؟ كانت الصين قد شغلت إعلامها كله في مواجهة الماكنة الإعلامية الغربية وسياسات حلف الناتو وأميركا في الحرب على أوكرانيا، ورفضت إدانة روسيا لاحتلالها أوكرانيا، واتّخذت موقفًا أقرب لروسيا. وفي الحالة الفلسطينية، وعلى الرغم من أن عدوها هو نفسه، لكنها سكتت. كنت قد كتبت مقالة سابقة في "العربي الجديد" عند اندلاع الحرب الأوكرانية بعنوان "في الصمت الصيني المرعب إزاء الأزمة الأوكرانية"، ولكني لم أكن أدرك أن صمتها المرعب الحقيقي سيكون تجاه فلسطين.
ليس للصين حلفاء، لأنها لا تريد الانخراط في أي صراع عسكري يُبعدهم عن هدفهم النهائي، التفوّق على الغرب
كانت الحملة الغربية قائمة على تشبيه طوفان الأقصى في "الهولوكوست" وجرائم ضد اليهود، وهذا ما يجعل من الصمت الصيني أكثر رعبًا. حيث قام التطبيع الصيني - الإسرائيلي على خطاب واحد موحّد ومكرّر هو دعم يهودية الدولة الإسرائيلية. وهنا تهزم الصين الحديثة تاريخها، وتهزم ماو أمام فورد وأيزنهاور. أما الصينيون على المستوى الشعبي، فبات حالهم كحال العرب، فقد نشرت صفحات صينية، وكذا نشر صحافيون صينيون يتحدّثون اللغتين، العربية والإنكليزية، محتوى رقميا داعما بشكل قوي للفلسطينين، ويستهزئ بالغرب على مواقع التواصل الاجتماعي، ومع التقدير الكبير لهم، إلا أن أصواتهم فردية، ولا تعبّر عن السياسة الرسمية.
الصين ليست الغرب، لا تمارس الإصطفافات الراديكالية الغربية. الوقت عندهم ليس هو ذاته الوقت عند الغرب، احتاجوا يومين للخروج بتصريح واحد فقط "يدين أعمال العنف". ليس للصين حلفاء، لأنها لا تريد الانخراط في أي صراع عسكري يُبعدهم عن هدفهم النهائي، التفوّق على الغرب.