العفن أو مُدَّعو الثقافة... والقابلية للاستعمار

12 اغسطس 2024

(معتوق أبو راوي)

+ الخط -

قبل ما يقارب العامَين، التقيت مصادفةً برجلٍ ليبيّ يعمل في صيانة الكهرباء في الجامعة، سألني: من أين أنتِ، وماذا تدرسين؟ فقلت: أنا فلسطينيةٌ أدرس العلاقات الدولية. ثمّ سألني: هل تعرفين مالك بن نبي؟ فقلت: نعم، لكني لم أقرأ له. فردّ: إذاً، كيف ستتحرَّر فلسطين؟ وكيف تدرسين العلاقات الدولية؟ وهزّ رأسه تعبيراً عن حزن وعتب شديدَين. وتابع: لو دُرّس بن نبي في الجامعات العربية لما وصلنا إلى هذا الحال. بعدها، أحسستُ بنقصٍ في معرفتي، وسألت نفسي: هل حقّاً عدم قراءتنا ما كتبه بن نبي السبب فيما نحن فيه من "عَفَن"؟
بحثت عن مالك بن نبي وقتها، ولم تكن هناك فرصةٌ لقراءة أي ممّا كتبه إلى أن جاء السابع من أكتوبر (2023). أعدت البحث، ولفت نظري أحد عناوين كتبه؛ "العَفَن". جذبني الكتاب منذ البداية، فأنا، ونحن، وبن نبي، نتشابه في العيش في أصعب حقبة تاريخية لشعب يواجه الاستعمار. تساءل بن نبي قبل قرن، وأتساءل أنا اليوم، عن أسباب الولادة في مكان (الجزائر/ فلسطين) نواجه فيه وحوش الاستعمار والقابلية للاستعمار.
هجوم كثير من مُدَّعي الثقافة العرب والفلسطينيين على المقاومة الفلسطينية، واغتيال إسماعيل هنيّة، والعَفَن الذي صعد في السطح، والشماتة باغتياله... ذلك كلّه دفعني إلى أن أكتب هذه السطور، فكما حال بن نبي في كتابه "العَفَن"، الذي أدان فيه أولئك المُثقَّفين الجزائريين، وغيرهم، من فصيلة القابلين للاستعمار، أرمي كلماتي هذه شهادَة ازدراءٍ. أرميها في وجوه شريحة العَفَن الفلسطينية والعربية، مُدَّعي الثقافة، الذين امتنعوا مُتعمِّدين عن ممارسة دور تعبوي ووطني خلال الحرب، ولم يُشكّلوا حاضنةً فكريةً للعمل المقاوم في غزّة، ولم يتوقَّفوا لحظةً عن مهاجمة المقاومة، وفتحوا الأبواب أمام المجتمع القابل للاستعمار، لمهاجمة شبّانٍ يمارسون عمل الفداء بجسارة تفوّقهم، وتفوّق تاريخهم. لا أتحدّث عمّن قدّم نقداً بنَّاءً، فهناك كُثرٌ كتبوا، وتعلَّمنا منهم مسيرة الكفاح المسلّح الفلسطيني، وانعكاساته إيجاباً وسلباً. أنا أتحدّث معك أنت. نعم أنت، أنت الذي تقرأ الآن وتشعر بأنّ هذه السطور مُوجَّهة إليك، لأنّ العَفَن فيك، ومنك رائحتُه تفوح.

تمثّل وعي أهل مجدل شمس بأهمّية الوحدة في الحرب، بأنّهم لم يدخلوا في حوارات مجتمع العَفَن بتحميل حزب الله أو المقاومة مسؤوليةَ استشهاد أطفالهم 

يتطابق وصف بن نبي المجتمع الجزائري في حقبة الاستعمار، خصوصاً الفترة 1932 – 1940، بشكل كبير، إن لم يكن كلّياً، مع ما آلت إليه شريحةٌ من المجتمع الفلسطيني اليوم، التي أسمّيها "مجتمع العَفَن". فكان في الجزائر "نوعان من الأهالي: نوع الخونة الواضحين، وهو صنف يقتات من أموال الاستعمار ومن ازدراء الشعب، ثمّ صنف (الخونة المُترَفين)، الذين يعيشون من أموال الشعب باستغلال جهله". في فلسطين، ما زال الخائن المُترَف الذي يرى نفسه بطلاً حقيقياً يأخذ شرعية وجوده من تاريخ عَفا عليه الزمن، ولم يكن جزءاً منه أصلاً، ويتقاسم هؤلاء جزءاً كبيراً من العَفَن مع مُدَّعي الثقافة، ومع "شعب" السوشيال ميديا، من الفصيلة ذاتها. لم يتوانَ مُجتمع العَفَن هذا من الهجوم المتواصل على المقاومة وقاداتها وشبابها، وشتمهم واتهامهم بالخيانة وبتصفية القضية الفلسطينية، لا بل وصل الأمر إلى النيْل من أعراضهم. ينشر أحد مُثقَّفي العَفَن، قبل أيّام، مقالاً يتحدّث فيه عن أنّ حركة حماس لا تُمثّل المقاومة الفلسطينية. موضوعياً، وسؤال مُوجَّه إليه: هل تُمثّلها أنت جزءاً أصيلاً من مجتمع العَفَن؟ أم يمثّلها الخونة المُترَفون؟
وجود الفلسطيني في كيانات جغرافية منفصلة أوجد أشخاصاً قابلين للعَفَن ومنتجين له، ونتج عن ذلك أيضاً عفونة تجوب فلسطين والأقطار العربية. العَفَن الأول عفن المُثقَّف الفلسطيني، الذي يبدأ مقالاته ومنشوراته بـ"المدني الإسرائيلي"، و"إنسانية المستوطن". منذ بداية الحرب، روّج هؤلاء لإنسانية الإسرائيلي أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، التي تفوق إنسانية حامل السلاح الفلسطيني، وكأنّهم يتبرَّؤون من أي عمل مُقاوِم، وبالرغم من أنّهم يدركون أنّ إرضاء المُستعمِر غايةٌ لا تدرك، فإنّ جُلّ كتاباتهم بدأت بالمدني الإسرائيلي، ويليه الفلسطيني، وبذلك يتخطَّى الإسرائيلي في مدنيّته، وإنسانيّته، الفلسطيني. لو أنّهم فعلاً مُثقَّفون، وفلسطينيون حقّاً، لوضعوا إطاراً فكرياً ونضالياً يحمي المقاومة الفلسطينية من الهجوم الإسرائيلي والغربي علينا جميعاً. ولو تجادلنا في أحداث 7 أكتوبر، فلم تتخطَّ العملية مستوطنات غلاف غزّة، أي إنّ ما قامت به المقاومة لم يكن ضدّ مدني واحد، فالمستوطن تسقط عنه، وفقاً للقانون الدولي، صفة المدنية، لمُجرَّد أنّه يعيش في مستوطنة. لقد ارتأى هؤلاء أنّ أولويتهم هي الغوص في مستنقع من الوحل والانحطاط الوطني، بعنوان الإنسانية، قابلين للاستعمار ومروّجين له فضيلةً. ما الفرق بين خطابات بنيامين نتنياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهؤلاء؟... تأسرَل هؤلاء إلى درجة أنّ الاستعمار ذاته يتعجَّب منهم، ولا أتعجب إن خاف نتنياهو على منصبه من هؤلاء (مجتمع العَفَن)، فسوف يُشكّلون خطراً عليه في الانتخابات القادمة، منافسين أقوياء.
العَفَن الآخر هو عفن مثقَّف السلطة، سواء في فلسطين أو في الدول العربية المجاورة، وهو من ضمن النُخْبَة المُستفيدة من الاستعمار، القابلة لوجوده جارَ سلام. منذ بداية الحرب، اشترك مُثقَّف السلطة مع مُثقَّف الاندماج في قبول الاستعمار من جهة، والهجوم على المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، واتهامها بالإجرام، وتحميلها مسؤولية الإبادة، من جهة أخرى. لم يكن نقداً لـ"حماس" وقياداتها، ولا للمقاومة وخياراتها، بل كانت عمليةَ تعبئةٍ مُوجَّهةٍ ضدّ المقاومة، أي إنّها عمل لو كانت إسرائيل لتفعله لما نجحت كما نجحوا. لقد كانت التعبئة ضدّ المقاومة تسير في اتجاهيَن متقاطعَين في الهدف متوازيَين في التوقيت: الأول تعبئة إسرائيل العالم الغربي، وحشد الدعم الدولي لقتل أكبر عدد ممكن منّا، والثاني تعبئة مجتمع العَفَن الفلسطيني، وحشد أكثر الأصوات قذارةً في المجتمع ضدّ المقاومة وأبنائهم ونسائهم، لتبرير جرائم القتل الإسرائيلية. كانت اهتمامات مالك بن نبي تنصبّ على أهمّية الثقافة والمثقَّفين، ووظيفتهم المجتمعية، خاصّة في ظلّ الاستعمار. ماذا فعلت شريحة العَفَن الفلسطينية تجاه المجتمع خلال حرب الإبادة؟... تقسيم المُقسَّم؛ المجتمع.
فتح الهجوم على "حماس"، خصوصاً، الباب لانقسام جديد في البيئة المجتمعية الفلسطينية المُضطربة أصلاً، فلدينا اليوم مُجتمعٌ يحتضن المقاومة العسكرية، رغم القتل والدمار، سواء في غزّة أو في مخيّمات الضفّة الغربية، ومجتمع العَفَن الذي طفى على السطح، الذي ينبذ العمل المقاوم، ويُسيء إليه، ويُحقّر قياداته وشبابه. لم يخرجنا حجم الدمار والقتل من عصر التفاهة، وتشكّل عِوَض ذلك مجتمع العَفَن. وسواء تعمّد من هاجم وكتب الوصول إلى هذه النتيجة أم لا، فهم يتحمّلون مسؤوليةً تاريخيةً كاملة.
أخيراً، نُشرت فيديوهات من مدينة طولكرم، يحمل فيها الفلسطينيون على أكتافهم قائد كتيبة طولكرم أبو شجاع، رغم تدمير إسرائيل المخيم وبنيته التحتية، ومحاصرته، وقطع الماء والكهرباء عنه، لاحتضانه للكتيبة. وكذلك الأمر في مخيّم جنين، الذي شهد مقاومةً ومحاكمَ ثوريةً في الشوارع، وأعطى صورةً لما تعنيه الحاضنة الشعبية، ووصل الأمر إلى قتل الأخ أخاه العميل، الذي سلّم المقاومين في كتيبة جنين. ولن تكون غزّة أقلّ احتضاناً للمقاومة، فستنتشر صورة واحدة لغزّة ما بعد الحرب؛ تقبيل رؤوس المقاومين، وهذا ما اعتدنا عليه من غزّة، ولن يتغيّر برغم تحشيد مجتمع العَفَن. والمثال الأكثر لمعاناً اليوم، هو موقف أهل مجدل شمس، ووعيهم بأهمّية الوحدة في الحرب، فلم يدخلوا في حوارات مجتمع العَفَن بتحميل حزب الله أو المقاومة الفلسطينية مسؤوليةَ استشهاد أطفالهم. من الواضح أنّه على من يدَّعي أنّه مُثقَّف فلسطيني ومُؤثّر، وكتب عشرات المقالات منذ بداية الحرب، والآلاف المؤلفة من المنشورات، أن يتعلّم من الشعوب الحرّة وليس العكس.

اشترك مُثقَّف السلطة مع مُثقَّف الاندماج في قبول الاستعمار من جهة، وتحميل "حماس" مسؤولية الإبادة من جهة أخرى

في شرائح العَفَن، لا تتفاجأ بالنفاق، إذ يدعمون ويتفاعلون مع صور شهداء كتيبتَي جنين وطولكرم، ومع من يقومون بعملية استشهادية في الضفّة، لكن، لا يروقهم العمل المقاوم القادم من غزّة. والمفارقة الأخرى أنّ الكُتّاب الفلسطينيين الذين هاجموا "حماس" منذ 7 أكتوبر لم يكن لديهم الموقف نفسه من المجموعات المسلّحة التي ظهرت في الضفّة الغربية. وهذا يدعو إلى التساؤل ما إذا كان هجومهم على "حماس" نابعاً من الاختلاف الأيديولوجي؟ وحتّى لو افترضنا ذلك، هل هذا الاختلاف يعطيك شرعيةَ التماهي مع نتنياهو وبن غفير؟ أو التعبئة ضدّ "حماس"، لأنّها لا تعترف بإسرائيل، لا في حدود الدولة ولا الدولتَين، وبالتالي يصير الاستعمار "فضيلةً" تفوق العمل المقاوم والشهيد؟... لقد تماهوا تماماً مع الصهيونية، فكما يقول بن نبي في وصفه الجاليات العربية في فرنسا، لقد "كانت الجماعة الجزائرية، الأقذرَ والأكثر خسَّةً".
سأل بن نبي نفسه، كيف السبيل إلى إفهام الأهالي أنّ هذا هو جوهر الاستعمار، الذي يحطُّ من الإنسان ذي القيمة إلى أبعد حدّ، حتّى يُفقده الشعور بقيمته، وهذا هو هدفه؟... الإجابة أنّ مجتمع العَفَن هذا لا يمكن إفهامه، فالغوص في العَفَن لا يُكلّف شيئاً، أمّا الكرامة فلها أثمان. أعترف بأنَّني لستُ بشجاعة مالك بن نبي لأكتب أسماءكم صراحةً، ولكنَّني حفظتها، وسجّلتها في مُذكِّراتي، وطبعت مقالاتكم ومنشوراتكم، لتكون شاهداً تاريخياً عليكم. وسأعلم الجيل القادم من كنتم، ومن أنتم، وماذا فعلتم خلال أقسى الحروب علينا. فالتاريخ لا ينسى أحداً، سواء كنتم مُثقَّفين، أو قياداتٍ، أو أفراداً. أمّا هنيّة، فقد نال شرف الشهادة، بعد عشرة أشهر من الإبادة، ليميّز الله بها وبه الخبيث من الطيب، والعَفَن من الطهارة. ولو قارنّا بين الصهاينة، الذين وزَّعوا الحلوى احتفالاً باستشهاده، لوجدنا أنَّكم هم، صهاينةٌ، وخونةٌ، بلسان عربي ولهجة فلسطينية. والخيانة ليست وجهةَ نظر، فكلُّ من يُعبّئ ضدّ المقاومة هو خائن ولا يستحقُّ إلا الازدراء.
هذه رسالة لك أنت. نعم، لك. أنت من تقرأ الآن وتشعر بأنّك المقصود، لتعيش وتموت في العَفَن، وليحيا الشهيدُ فوق أعماركم أعماراً.

رزان شوامرة
رزان شوامرة
باحثة فلسطينية، طالبة دكتوراة علاقات دولية، جامعة شرق البحر المتوسط، قبرص الشمالية.