طور جديد من الانحراف السلطوي في تونس

04 ابريل 2022
+ الخط -

مع حلّ مجلس النواب، يُدخل الانقلاب في تونس البلاد في طور آخر، تبدو ملامحه شرسة موحشة، فما إن أعلن الرئيس قيس سعيّد قراره هذا مستندا إلى تأويل غريب للفصل 72 من الدستور الذي ينصّ على أن "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور"، حتى أنكره طيف واسع من أساتذة القانون في الجامعة التونسية في عريضةٍ نشروها، ساعات قليلة بعد صدور القرار، علما أن الرئيس أعلن، قبل أكثر من أربعة أشهر، أنه لم يعد يحتفظ من الدستور سوى بالباب المتعلق بالحريات. وها هو يعود مجدّدا الى بابٍ من الدستور يفترض أنه ألغاه، ما دام يمنحه فتوى تشرّع له ما يريد. لقد أحرج سعيّد بهذا حتى من أيدوه، فها أستاذ القانون العام، صغير الزكراوي، الذي استمات في الدفاع عن شرعية الانقلاب، يؤكد أن "لا شيء في هذا الفصل بالذات يجيز لرئيس الجمهورية حل مجلس النواب".
كان لا بد للرئيس، وهو يخطو هذه الخطوة، أن يحصّن جبهته، ويبحث عن حلفاء يضفون شيئا من الشرعية على ما قام به، وهو يدرك تماما أن ما يأتيه لا أساس له سوى رغبته الجامحة في تجسيد مشروعه الشعبوي الناسف للديمقراطية التمثيلية وكل أجهزتها القائمة على الأحزاب والانتخابات كما استقرّت في أعرافها. لم يأت سعيّد على دبابة أو إثر البيان رقم واحد، وهذه هي استثنائية الانقلاب التونسي أيضا. جاءت به صناديق الاقتراع، متسلّلا من فجوة العثرات والصراع العبثي الذي عرفته نخب البلاد منذ انتخابات 2014. إنه يدرك أنه كلما مرّ بقوة في طريقه الوعر ليجرف مؤسسات وأعرافا وقوانين احتاج حلفاء جددا قد حدّد لهم وظيفتهم مسبقا: التأييد فقط. لذلك، يدرك أهدافه استنادا إلى آليتين: التهديد من خلال ملفات أعدت له تحتوي على قضايا فساد، بقطع النظر عن صدقها ودقتها ليهدّد بها ويبتز بها من شاء. الآلية الثانية لا تحتاج جهدا كبيرا، فهناك أكثر من مرشّح يطلب أن يكون حليفا للرئيس، حتى لو أن مشروعه قد يقود البلاد إلى كارثة محققة. إنهم يقبلون أن يكون سعيّد زعيما أوحد، ما دام يريحهم من خصمٍ عجزوا عن التخلص منه ديمقراطيا: الإسلام السياسي.

لم تبلغ نسبة المشاركة في الاستشارة الوطنية الإلكترونية سوى ما يناهز 4%

ضمن هذا المناخ، سارع الرئيس إلى استدعاء حلفائه القادمين، ممثلي المنظمات الوطنية التي استحقت ذات يوم جائزة نوبل للسلام، وتحديدا الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة وعمادة المحامين، ليشركهم في مشروع "الحوار الوطني" الذي سينطلق تقريبا على قاعدة نتائج الاستشارة الوطنية الإلكترونية، وهي التي لم تبلغ نسبة المشاركة فيها سوى ما يناهز 4%. وهرول هؤلاء إليه، وسرعان ما أعلنوا الولاء والطاعة. سيكون "الحوار الوطني" مع هذه المنظمات. وقد أكد سعيّد أن حواره هذا سيُقصي "كل من تورّط في نهب أموال الشعب وجوّع التونسيين وعمل على تفجير الدولة من الداخل"، وهذه عبارات إنشائية فضفاضة، تفيد ضمنا طيفا وسعا من معارضيه، وفي مقدمتهم حركة النهضة، غير أن القائمة مرشّحة إلى أن تتسع، وأن تضم أحزابا أخرى، على غرار حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، وحتى بعض من أيدوه سابقا، لينقلبوا عليه فيما بعد، ومنهم حزب التيار الديمقراطي وحزب التكتل وغيرهما. ولا ندري إن كان سعيّد سيدعو بعض أحزاب اليسار الراديكالي أو القومي، على غرار حركة الشعب أو حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، التي ما زالت تؤيده، وتحرضه على أن يمضي في تفكيك "الإسلام السياسي" من خلال القضاء، حتى ولو كان هذا فاقدا استقلاليته، كما تؤكّد منظمات وطنية ودولية عديدة منذ حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وبداية  محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، فضلا عن التحرّش بالقضاة، وتهديدهم باستمرار من أعلى رأس السلطة التنفيذية.

توحي كل المؤشرات أن آلة الجرف تتوغل من أجل إزالة كل من يربك مشروع الرئيس

كرّر الرئيس التونسي، أخيرا، في خطاباته التي يلقيها عادة عند منتصف الليل، أن نتائج "الاستشارة" ستكون قاعدة هذا الحوار الوطني. وبدأت أجهزة الإعلام الرسمية تنشر تلك النتائج التي تذهب كلها في تأييد مواقف الرئيس أو أفكاره: تأييد النظام الرئاسي، سحب الوكالة من النواب كلما دعت الضرورة، وشيطنة القضاء .. إلخ. وتوحي كل المؤشرات أن آلة الجرف تتوغل من أجل إزالة كل من يربك مشروع الرئيس: إعادة كتابة الدستور والذهاب إلى انتخابات تشريعية لن يكون فيها حضور لخصوم الرئيس. ويبدو أن مشروع الانتخابات التشريعية شبه  حاضر، وسيكون متضمّنا أشكالا عديدة من العزل  السياسي، وقد أشار الرئيس سعيّد إلى ذلك صراحة، فضلا عن المحاكمات التي ستجري لتلاحق ما يناهز 120 نائبا شاركوا في الجلسة العامة الافتراضية لمجلس النواب المنحلّ. والأرجح أن تتسع المحاكات لإزالتهم من المشهد السياسي. وقد تقود تهمة التآمر على أمن الدولة، إن أثبتها القضاء، بعضهم إلى السجن مدى الحياة أو حتى الإعدام. والأكيد أن نتائج مناخات الانتخابات إن جرت ستكون معلومة مسبقا: غرس أقدام مشروع الرئيس الشعبوي في أرض تونس، جمهورية جديدة، كما قال سعيّد، أخيرا، بلا أحزاب حقيقية، خالية من الأجسام الوسيطة ومن دون لاعبين حقيقيين، ما دام الرئيس قد صاغ قواعد اللعبة وفق مشيئته المطلقة. ومع ذلك، هناك رمالٌ متحرّكةٌ قد تعيد خلط الأوراق في الأسابيع القليلة المقبلة، الأزمة الاقتصادية، فضلا عن وحدة متوقعة لمعارضي الانقلاب قد تصيب المشهد الوردي الذي يشاهده الرئيس بكثير من العتمة واللايقين.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.