طفل في بئر
حقاً وصدقاً، كانت قلوبنا تحت الأرض. وحقاً وصدقاً، كان العالم كله في بئر، وكأنّ ما حدث وانتهى وكان متوقعاً قد جاء ليقول لكلّ العالم فعلاً إنّكم أمه واحدة، تجمعها الإنسانية وتفرّقها السياسة البغيضة، والتي وصلت فرقتها إلى رياضة كرة القدم، فها أنت، أيها العالم، تستفيق من نومك، وقبل أن تهرش شعرك المنكوش تتساءل: هل أنقذوا الطفل ريان؟ والطفل ريان، قبل دقائق قليلة مضت من توقيت وقوعه في البئر في قريته البعيدة، لم يكن يعرف عنه أحد شيئاً، مثل قريته وعائلته الفقراء جداً، المنسيين والغائبين والمغيبين.
رحل الطفل ريان الذي كان يرتع في بيت ريفي بسيط، بعدما أصبحت قصته، منذ لحظاتها الأولى، رمزاً لمحنة الأطفال في كلّ بقاع الأرض، كلّ هؤلاء الأبرياء الذين يدفعون حياتهم ويزهقون طفولتهم بسبب الفقر والحرب، ولست أظن أنّ هناك أكثر رعباً من هذين الوحشين المدمرين الساحقين لزهرة الحياة الغضّة.
رحل الطفل ريان بعدما وجّه أعين العالم أجمع إلى تلك السواعد التي حرّكت جبلاً لأجل طفل فقير، والتي أخبرت ذلك العالم الذي يرتّب خريطة الدول حسب مزاجه البغيض وأهوائه المنحرفة عن قريةٍ صغيرةٍ، توجهت إليها أبصار كلّ الشعوب التي جمعها القلق والدعاء، القلق والدعاء للطفل ريان، ولتلك السواعد التي تشير إلى غدٍ مشرِقٍ لا نعدم فيه الأمل بمقدّرات الشعوب العربية، ففي أخطر مراحل إنقاذ الطفل كانت فرق الإنقاذ الشابة تودع بعضها بعضاً عند فوهة البئر، قبل أن تنزل إلى عمق يزيد عن ثلاثين متراً أملاً في إنقاذ الطفل عن طريق حفر نفقٍ عرضي، وكانت النسوة حول المكان يطهين الطعام بلا توقف لفرق الإنقاذ والمتضامنين.
رحل الطفل ريان، تاركاً لنا إرثاً من الحب والمشاعر والوحدة بين الشعوب التي تعاطفت معه بشدة، وهدمت مأساته، خلال أيام خمسة، جدار الكراهية والتفرقة بينها، ذلك الجدار الذي بناه الساسة وتجّار الحروب والمآسي، وكأنّ ذلك الطفل الذي يتحدر من قرية أغران الجبلية الصغيرة التابعة لمدينة شفشاون الزرقاء (تتبع إقليم تطوان) قد أراد أن يسطّر تاريخاً لا يُنسى لقريته، وكأنّه يريد أن يقول: أرجوكم، لا تبقوا قريتي التي أزهرت فيها خمس سنوات مهمّشة. نشّطوا ذاكرة المكان بأنّ تعرفوا مكان قريتي على الخريطة، وقدّموا كلّ الخدمات الإنسانية الأساسية لأهلها الطيبين، وأغلقوا كلّ فتحات الموت التي انهار في إحداها جسدي الصغير، وتوارى عن الحياة ومراتعها، فقريتي التابعة لمدينة شفشاون كانت قلعة لصدّ الهجمات الصليبية، كما أحسنت وفادة مسلمي الأندلس، بعد طردهم على أثر التطهير العرقي الذي مارسته الممالك الصليبية بعد سقوط غرناطة والأندلس. وفي القرن الخامس عشر، بنى حاكمها، علي بن راشد، قلعة القصبة للتصدّي للاستعمار الإسباني، والتي ما زالت قائمة، ولكنها بتاريخها هذا نائيةٌ في لغة الإعلام، مهمّشة في القرن الحادي والعشرين.
هل كان على الطفل ريان أن يبتهج وهو يحيي فينا الإنسانية ولو فترة قصيرة، وهل كان سيبتهج وهو يُعلمنا أن حياة الإنسان مهمة، وأن حياة الإنسان يجب ألّا توضع في أي ميزان، أم كان عليه أن يحزَن لأنّنا لم نكتشف أنّنا أمة واحدة إلّا اليوم، فلم نكن كذلك حين كانت اليمن تصرخ، وسورية تئن، وفلسطين تقاوم، لكنّه قال لنا باختصار: كم أنتم سيئون، كم أنتم مجتمعات تتعاطف بقوة مع الحالات الإنسانية الفردية، ويبهت تعاطفكم مع المآسي الجماعية، مثلما يحدث مع مآسي الأطفال في سورية والعراق وفلسطين واليمن، وغيرها من البلاد التي عانت وما زالت من آلة الحرب التي أنتجتها لعبة السياسة.
رحل الطفل ريان ليتركنا أمام مرايا أنفسنا الحقيقية، وليس هناك أشدّ قسوةً على الإنسان من وقوفه أمام مرآة نفسه، وهو يكتشف ازدواجية مواقفه مثلاً، فهو يدعو الغني إلى مأدبته، ويترك الفقير ببابه، فيا لتعاسة من تركوا قدم الطفل ريان تزلّ إلى غيابة الجبّ، فيما كانوا ينقضّون على وليمةٍ في قصورهم.