طالبان والاعتراف المساوِم

25 يناير 2022
+ الخط -

تستشرف أفغانستان أزمةً إنسانية بالغة الخطورة. ويعيش الأفغان، الآن، وَفْق الأمم المتحدة، "ظروفاً بائسة للغاية". وتقدِّر الأخيرة أنّ أكثر من نصف السكان (40 مليون نسمة) يواجهون الجوع الحادّ، في حين يواجه مليون طفل خطر الموت؛ بسبب ظروف الطقس القارس. وتناشد حكومةُ طالبان الدولَ الاعترافَ بها، معلنةً أنّه جرى الوفاء بجميع الشروط التي تطالب بها معظمُ الدول، منذ أعادت السيطرة على السلطة، في كابول، في 15 أغسطس/ آب، العام الماضي.
أما الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، فقد شدَّد على أنه "لا يجوز معاقبة الشعب الأفغاني؛ لمجرَّد أن حركة طالبان لا تتصرَّف بطريقة ملائمة". وذكر أنّ "الأمم المتحدة تعمل، في الوقت نفسه؛ من أجل وصول المساعدات الإنسانية، وتجنُّب حدوث انهيارٍ اقتصادي، في أفغانستان. وفيما يتعلق باستجابة "طالبان" للمتطلبات الدولية، المتعلقة بحقوق الإنسان، والمرأة، لفت الأمين العام إلى أنّ "هناك بعض التقدُّم" في ما يتعلق بعمل المرأة، وتعليم الفتيات، في أفغانستان. وقال إنّ "الموظفات اللواتي يعملن في الأمم المتحدة، في أفغانستان، يتمكنّ من العمل، الآن". وأوضح: "نعلم أيضًا أن هناك أماكن يُسمَح للفتيات فيها بالذهاب إلى المدارس، وهناك أيضًا نساء أفغانيات يعملن في بعض المصالح الحكومية". هذا مع إقراره "حدوث خروق جسيمة لحقوق الإنسان". وشبيهًا بموقف الأمين العام للأمم المتحدة، جاء موقف النرويج، إذ أعلنت وزارة الخارجية النرويجية أن ممثلي حركة طالبان الأفغانية سيصلون إلى النرويج؛ لإجراء محادثات؛ لبحث كيفية تخفيف الأزمة الإنسانية في البلاد، مع تأكيدها أن ذلك لا يعني اعترافاً بها، لكن عليها التحدُّث مع السلطات الفعلية في البلاد، رافضةً السماح بأنْ يفضي الوضعُ السياسيُّ إلى كارثة إنسانية أكبر.

تذكّر طالبان بأن المساعدات قصيرة الأجل ليست هي الحل، وأنه يجب العمل على إيجاد طريقةٍ لحلِّ المشكلات، بشكل جذري

بالتوازي، تلحُّ حكومة طالبان على خطورة الأوضاع الاقتصادية، مذكّرةً بأنّ "المساعدات قصيرة الأجل ليست هي الحل، وأنه يجب العمل على إيجاد طريقةٍ لحلِّ المشكلات، بشكل جذري". وهي تطالب بالإفراج عن الأصول المصرفية الأفغانية التي تجمِّدها دولٌ غربية بقيادة الولايات المتحدة، وتبلغ 9.5 مليارات دولار. هذا التجميد يفاقم من آثاره تعليقُ صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، نشاطهما في أفغانستان، وإيقافهما المساعدات. وهنا يصعب تفادي السؤال: هل الدافع الحقيقي، وراء رفض أميركا، ثم الدول الغربية الأخرى، الاعتراف بحكم طالبان هو ملف حقوق الإنسان؟ لم نشهد اهتماماً فعليّاً لإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في شؤون حقوق الإنسان والدفاع عن الديمقراطية. وبهذا جاءت أقوالُ المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية، كينيث روث، إنّ سياسة بايدن، في الشرق الأوسط، لم تختلف كثيراً عن سياسة سلفه دونالد ترامب. وإن الرئيس الحالي، في ما يتعلق بحقوق الإنسان في الشرق الأوسط، لا يزال يسترشد بالقواعد التي سبقته. وكتب روث، في التقرير السنوي للمنظمة عن الأوضاع في العالم، إن بايدن "واصلَ بيْعَ أسلحةٍ إلى مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل، على الرغم من استمرار ممارساتها القمعية". وهذا ليس جديدًا، فممعروفٌ أن أميركا لا تجعل من حقوق الإنسان، والديمقراطية، أولوية فعلية، بقدر ما تحرِّكها مصالحُها. وفوق ذلك، تجعل حقوق الإنسان محكومةً بمعاييرها هي. ولذلك، ضغطها على حكومة طالبان إنما هو لاحتوائها داخل لعبتها، وقواعدها.
تُلزِم واشنطن بتلك المعايير التي تراها كونية، أو يجب أن تكون كذلك، وترهن بها شرعيتها، حين تريد، لتحكُم شؤون البلاد، أو المجتمعات الداخلية. وأميركا لا ترى أن التزام حركة طالبان بعدم الاعتداء على أيِّ دولة، ورفضها انطلاق تلك الاعتداءات من أراضيها، كافيًا. ومع ذلك يبقى السؤال عن نجاعة هذا النوع من الضغط في تغيير سلوك النُّظُم والحكومات وتصوُّراتها؟

أثبت الشعب الأفغاني، تاريخيّاً، رفضه الاحتلال الأجنبي، وإصراره غير المتزحزح على إخراجه من بلاده

لا تبدو حركة طالبان منقسمة، أو غير منسجمة التكوين؛ إزاء تلك التصوّرات التي تؤمن بها، وهي تراها جزءًا من عقيدتها الدينية، وكذلك جزء غيرُ قليلٍ من الشعب الأفغاني؛ فهو شعبٌ محافظ، في المجمل. ووفقًا لعالِم الإثنيَّات، بيير سونليفر، الذي أنجز مؤلفاتٍ عديدة عن أفغانستان، وفي معرض تفسيره عودة قوة "طالبان"، أواسط سنة 2014، بعدما سيطرت على 60% من مساحة البلاد، تشعر "غالبية الأفغان بأنها تتعرَّض للإذلال ولـ(سيطرة) جسم غريب، ليس فقط بسبب وجود القوات الأجنبية، ولكن أيضًا بسبب الرغبة في إقامة ديمقراطية وعدالة، على النمط الغربي، وعلى أساس دستورٍ مُستوحى من الخارج، فالأفغان يعتقدون أن بلدهم لم يعد تحت التأثير، بل تحت الوصاية".
واتفق مع هذا التفسير الخبير السويسري، في شؤون الإرهاب، جاك ف. بو، وبعد رحلة له إلى أفغانستان، إذ رأى أنّ "عقلية الأفغان تشبه شيئاً ما جغرافية بلادهم. فهم في الغالبية جَبَليُّون يركِّزون اهتمامهم على مجتمعهم المحلِّي، ولا يأبهون كثيراً بالعالم الخارجي. وهم لا يطلبون أن يضخَّ الغربيون استثماراتٍ كبيرة في بلادهم، أو أن يقوموا بتحديثها، بل يريدون إدارة تنميتهم بأنفسهم، بوتيـرتهم، وعلى طريقتهم، وبتنـاغـم مع ثقافتهم". وأثبت الشعب الأفغاني، تاريخيّاً، رفضه الاحتلال الأجنبي، وإصراره غير المتزحزح على إخراجه من بلاده، منذ الاحتلال البريطاني، مروراً بالسوفييتي، إلى الأميركي.

لا يشتهر عن طالبان ما اشتهر عن أسلافها من فساد، حيث كان ذلك الفساد من الأسباب التي سارعت في انهيار حكومة الرئيس الأفغاني الفارّ، أشرف غني

وأما "طالبان" الحاكمة فتُبدي نجاحاً معقولاً في فرْض سيطرتها، وفي الحدِّ من الجماعات التي تستبيح دماء الأبرياء. وحتى في إدارة المال لا يشتهر عنها ما اشتهر عن أسلافها من فساد، حيث كان ذلك الفساد من الأسباب التي سارعت في انهيار حكومة الرئيس الأفغاني الفارّ، أشرف غني، ولم تتمكَّن قوَّاته من الاحتفاظ بتماسكها، أمام توسُّع طالبان المثير. وقد أعلنت حكومة طالبان، في نوفمبر/ تشرين الثاني، من العام الفائت، أنها باشرت دفع رواتب الموظفين الحكوميين الذين لم يتقاضَوْا رواتبهم، منذ عودة الحركة إلى السلطة في أفغانستان؛ ما تسبَّب في أزمة مالية كبيرة. وقال المتحدِّث باسم وزارة المالية، أحمد والي حقمال، إنّ الرواتب ستُدفَع عن الفترة التي تبدأ في 23 أغسطس/ آب، وإن رواتب بعض الموظفين ستشمل الشهر السابق لوصول "طالبان" إلى السلطة. وكانت الحركة، وفور سيطرتها على الحكم، أعلنت إصدار عفو عامّ للعاملين في الإدارات الحكومية، وقبولاً بدورٍ للمرأة.
وأخيراً، في العالم من التنوُّعات التشريعية، وفي دول المنطقة، عربية وإسلامية، ما لا يتفق مع النظرة الغربية، أو الأميركية لحقوق المرأة، وحتى في نظُم الحكم ما لا يتطابق، أو ما يتباعد عن الديمقراطية التي تريدها أميركا، ولا يمنعها ذلك من الاعتراف بها، والتعاون معها؛ فهل تستمر واشنطن بمقايضة حياة الملايين في أفغانستان بتلك الآمال؟

الكاتب أسامة عثمان
الكاتب أسامة عثمان
أسامة عثمان
كاتب فلسطيني
أسامة عثمان