ضلعان مكسوران والثالث معطوب
كان السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المجيد أبلغ من مجرّد واقعةٍ حربيةٍ لا سابق لها خلال مائة سنة من تاريخ الكفاح الفلسطيني، وكان أيضاً أكبر من مساحة غزّة، أهم من اجتياح نحو خمسين مستوطنة وثكنة عسكرية في الغلاف، وأثمن من قتل وأسر مئات من الجنود والمستوطنين، ومن اختراق السور الإلكتروني والجدار الحديدي، وكسر الصورة النمطية عن الجيش الذي لا يُقهر، والدولة الأقوى في الشرق الأوسط، والقلعة لا تُؤخَذ من الخارج، وكل ما استقر في الأذهان من خرافات مماثلة.
ذلك أن مفاجأة حرب 7 أكتوبر التي استغرقت ست ساعات ضمّدت جراح حرب الأيام الستة، وحقّقت أكثر من كل ما سبق ذكره، كانت الضربة الاستراتيجية القاتلة، الحرب الهجومية الفلسطينية الأولى، نقطة التحوّل الفارقة، تلك التي بدأت صباحاً وانتهت ظهر ذلك اليوم الأغر، غير أن الفريق الذي خسر المباراة، بحسب الكاتب الإسرائيلي المعارض جدعون ليفي، رفض مغادرة الملعب، وطلب من حكم الساحة تمديد زمن المقابلة لتحقيق الفوز أو بلوغ التعادل على الأقل، فكانت هذه الحرب الانتقامية الجارية منذ نحو ثلاثة أشهر دامية، ليس فقط ضد الفريق الفائز بجدارة، وإنما ضد جمهور المتفرّجين على المدرّجات.
وأحسب أن حرب الإبادة ضد المدنيين في قطاع غزّة لن تغيّر الحقائق التي انجلت عنها حرب 7 أكتوبر مهما توحشت وطال بها الوقت الثقيل على القلب، فكما كان "11 سبتمبر" (2001) يوماً غيّر وجه العالم، فان هذا اليوم الفلسطيني الفاصل بين زمنين قد غيّر، بدوره، وجه الشرق الأوسط، وربما النظام الدولي، الذي اختطفته واشنطن منذ ذلك اليوم، ولا سيما أن نتائج الساعات الستّ قد حفرت أخاديدها العميقة على ثلاثة مستويات، أو قل ثلاثة أضلاع، سيلي شرحها حالاً، وحفرت كذلك أحافيرها العميقة في الوعي الإسرائيلي، الذي جرى كيّه بقسوة واقتدار شديديْن.
معلومٌ أن المشروع الاستيطاني الصهيوني قد تأسّس على ما يشبه مثلثاً متساوي الأضلاع، بدأ ضئيل المساحة ثم اتسع مع الوقت، تمثل الأول في استجلاب اليهود وتهجيرهم من كل الأصقاع بشتى السبل، وجذبهم إلى "أرض الميعاد" بكل المغريات، والثاني تجسّد بوضوح أشد في عملية الاستيطان الذي كان يتمدّد مع كل عدوان، ويتعمّق على أيدي الحكومات المتعاقبة، ولا سيما بعد حرب العام 1967. أما الضلع الثالث فقد تكوّن مع عصابات الإرهاب اليهودي قبل النكبة، تلك التي تحوّلت، في ما بعد، جيشاً مدجّجاً، وأداة إرهاب منظّم وتوسّع وعدوان.
في حرب غزّة انكسر، مبكراً، الضلع الأول (الهجرة) لأول مرّة منذ مائة عام، وكان الكسر في موضعين اثنين، تمثّل أولهما في توقف سيل الهجرة من الخارج، وتموضع ثانيهما في الهجرة الجماعية المعاكسة من الداخل، حيث ذكر موقع "تايمز أوف إسرائيل" قبل شهرين أن عدد من هاجروا بلغ نحو 370 الفاً، فيما تتحدّث مصادر مستقلة عن أن عدد هؤلاء قد تجاوز الآن نصف مليون، ضاقت بهم الشقق السكنية في قبرص واليونان وإيطاليا والبرتغال وغيرها في أوروبا، وهذه ثمرة مبكّرة، من بين ثمرات كثيرة، سقطت في سلّة 7 أكتوبر على الفور.
أما الضلع الثاني (الاستيطان) فقد أتى انكسارُه مدوياً، وسُمع تردّد صداه في نطاق أوسع مدىً من غلاف غزّة جنوباً وأعالي الجليل في الشمال، حيث نشأت ظاهرة النازحين اليهود لأول مرّة، وبعضهم يتحدّث، من دون توثيق، عن وجود مخيّمات، كانت حكراً على اللاجئين الفلسطينيين. وفيما بلغت أعداد من جرى ترحيلهم نحو 230 ألفاً من الجليل (حسب تحقيق حديث لصحيفة وول استريت جورنال)، وتهجير مثلهم من الغلاف، هناك ضعفهم على الأقل ممن غادروا مدن الساحل الجنوبي ذعراً، مثل عسقلان وأسدود وغيرهما من مدن الأطراف، وهذه ثمرةٌ أخرى طيبة المذاق، فاء بها 7 أكتوبر المجيد.
غير أن الضلع الثالث (الأمن)، وهو أهم أضلاع هذا المثلث، فقد أمسكت به المفاجأة الاستراتيجية الفلسطينية المذهلة، وهو يغط في نوبة الحراسة متلحفاً بغطاءيْن، إسمنتي وإلكتروني، فطرحته أرضاً وداست على رقبته الغليظة، كسرت هيبته وكشفت ستر عورته الشائنة، أفقدته توازنه وجنّنته تماماً وربّ الكعبة، جرّدته من ثقته بنفسه، أيقظت كل مخاوفه الوجودية، ولم تُبق له من ممتلكاته الثمينة سوى طائراته الحديثة، فراح يخوض مقتلة من دون أن يقاتل، ينتقم ولا يحارب، يستأسد على النساء والأطفال من الجو وعن بعد، من غير أن يواجه، ويفشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافه، وهذه لعمرك، يا أخا العرب، ثالث الثمرات اليانعة في السلّة الفلسطينية.