صورة بأبعاد حلم .. تلك الجزائر التي نستشرفها
نشر صحافي صورة لشاب جزائري انطلق في مغامرة سفر، من الشّمال إلى الجنوب، على مسافة ألفي كلم، على ظهر حمار، لم تلق الاهتمام الذي يليق بها، لكنّها، في قراءة سيميولوجية ورؤية استشرافية، يمكن أن تشكّل أبعاد حلم أشارت إليه مقالة سابقة للكاتب في "العربي الجديد"، إعمالاً للطّريق الثلاثي المستقبلي لبعث المشروع الجزائري القادم المتضمّن للزّراعة الصّحراوية، العالم الافتراضي، من خلال خوارزميات وتطبيقات، والإبداع الطاقوي، استغلالاً للطاقة الشمسية التي تزخر بها صحراء البلاد الشّاسعة (أكثر من مليوني كيلومتر مربّع).
أقول إنّ الصُّورة لم تلقَ الاهتمام بل والمشروع/ الحلم الذي انطلق فيه ذلك الشّاب اليافع، ذلك أنّه لو تمّ الانتباه إلى ما تحمله من دلالات، لكانت الهيئات العمومية قد سارعت إلى التقاط الفكرة وتحويلها إلى مشروعٍ بأبعاد تجسيد ذلك الطريق الثلاثي المشار إليه، انطلاقاً من نقاط سيمرّ عليها الشّاب في طريقه الطّويل، وهي كلّها مناظر، مواقع وصور سياحية لجزائر ساحرة بمرافقة السّفرية بأجهزة دقيقة، ليست غالية الثّمن، لتصوير لقطات الطّريق وبثّها، يومياً، على وسائل التّواصل الاجتماعي، مع تحميل ذلك البثّ رسائل ذلك الطّريق، المشروع/ الحلم، ربط الأماكن والمواقع بذاكرة الماضي، الإبداع ومقاربة المستقبل بالتّجسيد الفعلي لإرادة الفعل التي يحملها الشّاب، ومن ورائه ثلثا الجزائريين، ممّن تقلّ أعمارهم عن الثّلاثين.
قصور في تعامل الهيئات العمومية مع أكثر ملفّ وقضية، جرّ على الجزائريين فشلاً في الإدراك لمقوّمات البلاد واستثمارها
يمكن الصّورة لأن تُقرأ سياسياً من خلال التقاطها للتّعويض عن كمّ القصور الذي شُوهد في تعامل الهيئات العمومية مع أكثر ملفّ وقضية في العقود الأخيرة، وهو قصورٌ جرّ على الجزائريين فشلاً في الإدراك لمقوّمات البلاد واستثمارها بما يمكنه أن يقلب الصّورة النّمطية لبلدٍ مستورد كل شيء، مهدر موارد الطّفرة النّفطية، وعاكس صورة بلدٍ أنتج، في عقدين، بلغة السّلطة نفسها، عصابة وقوى غير دستورية، ما أسهم في توليد يأسٍ لدى الشباب، كان من تداعياته آلافٌ منهم، من حاملي الشهادات وأصحاب الكفاءات. خرج من البلاد إلى فضاءاتٍ أرحب لعلمهم ولكفاءاتهم، واتجه مئات منهم إلى قوارب الموت في مغامراتٍ يائسةٍ كانت نهايتها الموت.
في برنامج السّلطة، بعد انتخابات ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، إصرار للاعتماد على الشباب والمجتمع المدني، مع التّركيز على حركية جديدة لبناء نخبةٍ بديلةٍ لتلك التي سادت من قبل، وأوردت الجزائر المهالك بتسييرها السّيئ لموارد الجزائر ومقوّماتها. وتعدُّ فرصة هذا الشّاب سانحةً لتكريس سياق تلك السّياسة الجديدة، بل مكسباً، حيث ستدلّل المغامرة، في كل مسارها، على مقدار الإصرار الذي يوجد لدى فئة الشّباب للعب دور محوري في المشروع/ الحلم. ويمكن أن تدلل الصّورة، أيضاً، على أنّ ثمّة اتجاهاً للبلاد نحو تكريس القطيعة مع كلّ ما هو غير لائق بسياسة العهد القديم، سياقاتها ومساراتها وتعويض ذلك كلّه بمسارات وسياقات جديدة مبدعة، قد تعيد نوعاً من بريق سياسةٍ أدّت إلى ما نراه، الآن، بدليل نسبة المشاركة الضعيفة، جداً، في استفتاء الدستور أخيراً. إنها فرصة استعادة بريق السياسة من بوابة الشباب، من خلال هذه المغامرة.
اتجاه في الجزائر نحو تكريس القطيعة مع كلّ ما هو غير لائق بسياسة العهد القديم
قد نتجه، أيضاً، إلى قراءة اقتصادية للصّورة، من خلال التّركيز على مخرجاتها في تعزيز فكرة الطّريق الثلاثي المشار إليه، وخصوصاً من شباب يافع، مبدع، ومتّجه، على غرار شباب العالم، إلى العالم الافتراضي والذّكاء الصناعي للاستثمار في الزراعة الصحراوية مع إعادة الحياة، من خلال ذلك كلّه، إلى مشاريع الطّاقة الشّمسية التّي ستخدم، حتماً، ذلك الطّريق بتوفير الإبداع، باستخدام تطبيقات العالم الافتراضي وخوارزمياته لاستغلال خيرات الصّحراء، ما سيوجد جزائر خضراء، على الأصعدة كافة، زراعياً ومناخياً، ويعيد بل يُحيي ذاكرة التّاريخ التي كانت الجزائر فيها سلّة الغذاء للمتوّسط، برمّته، طوال العهود التاريخية من لدن الرومان إلى عهد الاستيطان الفرنسي البائد.
كذلك يمكن استغلال طريق الرحلة، لإبراز مختلف أوجه الجزائر الاقتصادية، حيث سيمر الشّاب، في رحلته، على المتيجة، هضبة البلاد الزراعية، ثم التل الصحراوي، قبل الوصول إلى مشارف الصحراء، وكلّها مواقع لإسهاماتٍ اقتصادية، منها ما هو مستغل، ومنها ما هو ضامر يحتاج إلى الاهتمام، لتشكّل السفرية فرصة لذلك كلّه، مع التّركيز على صورة الشّاب اليافع لصنع إدراكٍ لا شعوري بأنّ الضّامر من الفُرص غير المستغلّة هي باب الشّباب للولوج إلى جزائر أخرى، سيستثمرون فيها إبداعاتهم وقدراتهم بما يرونه مناسباً، مستغلين كفاءاتهم مع إبراز حاجة الجزائر إلى إسناد ذلك النشاط من بنى تحتية، مدارس وجامعات، مراكز تكوين ومشاريع استثمارية تغطّي طول الجزائر وعرضها.
الضّامر من الفُرص غير المستغلّة هي باب الشّباب للولوج إلى جزائر أخرى، سيستثمرون فيها إبداعاتهم وقدراتهم بما يرونه مناسباً
يمكن الرّحلة أن تُشكّل فرصة لإبراز أهمّية التّغطية الإعلامية، من خلال إظهار محورية العلام الافتراضي ومزاياه التي، باستخدامها الجيد، تصبح حافزاً للتغيير، وليست صانعة للمهازل التي نراها، اليوم، من خلال صانعي محتوى كله تفاهات وتعيير، وليس نصحاً للهيئات العمومية، مع بث مشبوه يأتي من عواصم غربية ومن أشخاص مشبوهين، كلهم، لا يريدون من خلال ما يبثونه خير البلاد، بل تشكيل عقول ضامرة تمام الضمور مع نشر للإشاعات والأخبار الزائفة.
ليس هذا كلّ ما يمكن أن تُقرأ منه الصّورة، فقط، بل هناك، أيضاً، تحضير وصول الشاب إلى نقطة النّهاية من الرحلة التي يجب أن تحضّر بشكل دقيق، لتكون الشّريط الذي سيقصه بتجسيد فكرة الطّريق الثلّاثي لجزائر الغد. عند قرب الوصول، بل من الآن، يجب التفكير في أنّ تجسيد المشروع/ الحلم يمرّ عبر منح ذلك الشّاب، ومن ورائه ملايين الشّباب الآخرين الذين ينتظرون فرصتهم، ولم يجدوا من يوجههم إليها، قطعة أرض من عشرة هكتارات، تكريماً له على تلك الرحلة المجسّدة طريق الألف ميل، سيعمل على استغلالها برفقة مهندس زراعي ومبدع في الطاقة البديلة لتوليد الكهرباء، واستخراج الماء، إيجاداً لفرصة حياة لتلك الأرض القاحلة، وله هو شخصياً.
صورة أوحت بأحلام لجزائر أخرى، جديدة، حقاً لا مجازاً، على الأصعدة كافة، سياسياً، إعلامياً واقتصادياً
من خلال ذلك، وفي أثناء الرحلة، بتحرّك مبدع للهيئات العمومية، يمكن إطلاق المشروع/ الحلم، بتوجيه آلاف العاطلين من العمل وحاملي الشهادات إلى تلك الأراضي، في الصحراء، لكن مع نماذج استغلال بمقاربات علمية دقيقة، يشارك فيها مهندسون زراعيون، مبدعون في التّطبيقات الافتراضية والطاقة البديلة وأيادٍ عاملة تعرف الأرض وما تحتاجه من جهد لاستغلالها. ولعلّ فرصة المشروع الصّحراوي الأخضر لمدينة وادي سوف، في الجنوب الشرقي للجزائر، سانحة لإمداد المشروع/ الحلم بالإسناد اللازم، من حيث تجارب استغلال الصّحراء لإنتاج خيرات زراعية تُصدّر، الآن، إلى بعض البلدان المجاورة، ووصلت إلى أسواق الشّمال الجزائري بكمياتٍ مهولة وبأسعار معقولة جداً.
هذه هي جملة من القراءات التي يمكن أن تُشاهد بها الصّورة التي نشرها ذلك الصحافي الهمام، والتي أوحت بكل تلك الأحلام لجزائر أخرى، جديدة، حقاً لا مجازاً، على الأصعدة كافة، سياسياً، إعلامياً واقتصادياً، بل واستراتيجياً، أيضاً، لأنها، أي الرحلة التي يقوم بها ذلك الشاب، يمكن أن ينظر إليها، إذا تمّ تضمينها تلك الخطوات الإبداعية، تصوير رسالة الجزائر التي تساند فيها الهيئات العمومية رحلة هي عصارة المشروع/ الحلم لجزائر قوية، وليس لجزائر هي، الآن، للأسف، موضوع لتكالب ولإدراكات نمطية من الكل، من الداخل ومن الخارج. ولعل رحلة هذا الشاب يمكنها أن توحي إلى صانع القرار، في البلاد، بأن مكانة الشباب هي في تجسيد ذلك المشروع/ الحلم، لتكون، خاتمة السياق، تجهيزه ليتسلّم المشعـل، ويصبح قاطرة المستقبل الذي نرجوه ونحلم به.
إنها صورة الشاب، بحماره، في رحلة نتمنّاها أن تكون فأل خير لما نحلم به.. و لم لا؟