سيناريو بديل لحكاية الأسرى الستة
بوقوع الأسيرين الفلسطينيين، أيهم كممجي ومناضل نفيعات، في أسر سلطات الاحتلال الصهيوني مرة أخرى، بعد أسبوعين من ملحمة الخروج من السجن والتخفّي، يندلع سؤالان حقيقيان: هل نحن أمة تكره البطولة، أو تخاف منها، أو ترتجف من عواقبها؟ هل بلغ منا الإحساس بالعجز والضعف أننا صرنا نتبرأ من أبطالنا ونتركهم لعدوهم وعدونا، بل وتساعد السلطات التي تحكمنا بالحديد والنار في الإيقاع بأغلى الأبطال؟
أمّة مكوّنة من 400 مليون مواطن، ماذا قدّمت لستة أبطال بواسل من أبنائها سوى الفرجة على ملحمة كسرهم قيود الأسر، إعجابًا بما حققوه، أو خوفًا من عواقب ما تحقق؟ ماذا قدّمنا لهم سوى كثير من الدعوات بالسلامة، وقلق لحظات انتظار تساقطهم واحدًا تلو الآخر في قبضة سلطات الاحتلال؟ ماذا قدّمنا سوى تبادل اتهامات بالخيانة والوشاية بالأبطال والحقد الصامت، والمعلن، على تمكّنهم من اجتراح المعجزة؟
لا يمكن لعاقل تصور وصول قوات الاحتلال الصهيوني لمحاصرة مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة، والخاضعة للسلطة الفلسطينية، ومحاصرة سكانها، واعتقال الأسيرين الباقيين على قيد الحرية من بين ستة أسرى، من دون افتراض مساعدة معلوماتية من هذه السلطة التي تعبد نصوص التنسيق الأمني مع المحتل، وتتفانى في الحفاظ على أمنه، وتحرّض ضد كل من يقاومه.
لو كنا في زمن عربي آخر، غير مرحلة الانحراف القومي والقيمي التي نعيشها، لكان الأسرى الفلسطينيون الستة يجلسون على منصّات التكريم في غير واحدة من عواصم العرب التي كان من الممكن جدًا أن يصلوا إليها بسهولة، لو كان ما يجري في عروق الذين يحكموننا بقوة الطغيان والتطبيع الباطشة دمًا عربيًا.
كان من الممكن، بالحد الأدنى، أن يظهر الأبطال الستة في غزة المقاومة، لولا أن إيمان السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي يفوق إيمانها بحقوق شعبها في مقاومة هذا الاحتلال والسعي إلى تحرير الأرض والإنسان.
في كل تفاصيل رحلة الشجعان الستة ومحطاتها من كسر قيود السجن حتى العودة إليه، لا يمكن إلقاء اللوم على جماهير متهمة بعدم توفير حاضنة شعبية تؤوي الأسرى وتحميهم وتدعمهم، حتى يبلغوا مستقرًا آمنًا، ذلك أن هذه الجماهير بدورها أسيرة سلطاتٍ تحتقر البطولة، وتحرّض عليها، وتعاقب كل من يرتكب فعلًا بطوليًا، ومن يساعده، وتشي به عند الاحتلال الذي يرى فيها أداة من أدواته الأمنية.
بل إن هذه السلطة، بدورها، سجينة واقع عربي مشين، يتسابق حكامه في التزلف إلى الاحتلال، عن طريق الوعود بترويض كل أشكال المقاومة، واستدراجها إلى أكمنة المساعدات المالية والاقتصادية، نظير الكفّ عن استعمال السلاح، والسعي إلى التحرير.
هذا الوقع الذي يمارس أقبح أنواع الاحتيال السياسي، أو بالأحرى القوادة السياسية الواعية للغاية، يريد من المواطن العربي والفلسطيني أن يصدّق أنه بالإمكان أن يجمع قلب واحد بين عشق التطبيع وحب فلسطين .. بين الطنطنة بالوطنية والقومية وبين الاستمساك بتلمود التطبيع والتعاون مع الاحتلال الصهيوني، سياسيًا وتجاريًا وثقافيًا ورياضيًا.
بعض طغاتنا الذين يرفلون في نعيم العلاقة مع المحتل لا يتورّعون عن استعمال غزّة ومقاومتها مسحوق غسيل لسمعة سياسية ملوّثة بالتطبيع والاستبداد، وإن كنا نربأ بالمقاومة الفلسطينية الباسلة أن تدخل هذا الفخ، ونظن أنها عصيةٌ على الاستدراج إلى متاهات النظام الرسمي العربي، المستجيب تمامًا، في معظمه، لرغبات الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن، والتي كان أول مشاريعها المطروحة تشكيل حلف عسكري بين العرب والعدو الصهيوني، تحت مزاعم محاربة الإرهاب، والتصدّي للأطماع الإيرانية.
هذه الحرب الضروس على معتقدات الإنسان العربي وقناعاته تستهدف زراعة وعي جديد، تحدّث عنه عبد الفتاح السيسي أكثر من مرة خلال الأسابيع الماضية، مطالبًا بحشد كل الطاقات وتكريس كل الجهود لنسف المستقرّ في وجدان المواطن المصري، وتثبيت الوعي الجديد، الفاسد، مكانه، ومحو المعادلات القديمة، وفي مقدمتها تلك المعادلة البسيطة، الصحيحة التي تقول: أن تكون مع المقاومة فهذا يعني بالضرورة أنك ضد الاحتلال، وأن تكون مع الاحتلال فهذه يعني بداهة أنك ضد المقاومة.
فتحسّس رأسك.. أو تحسّس وعيك ووعي أبنائك.