سيناء في دفتر أنثروبولوجي مصري
تعدّ جغرافيا المكان أحد عوامل تشكّل التاريخ، بما فيه من فصول للصراع والتواصل. هذا ما يمكن استنتاجه من كتابات عدة عن سيناء. والغوص فيها مغرٍ وغني بالتفاصيل كما طبيعتها. وعلى الرغم من أهميتها ومركزيتها، فإنّ الكتابات التي تتّصف بالشمولية والكلية محدودة، وظلت نادرةً تقتصر على جزئيات، حتى مطلع القرن العشرين، كما يشير نعوم شقير. وسيناء، في فكر روّاد وكتّاب أنثروبولوجيين وجغرافيين، بوابة للتواصل بين الحضارات ومعبر للتجارة، وساحة للتنوعين، الثقافي والديني. وعلى أرضها شواهد وآثار لفترات تاريخية متتابعة، وفي مكوّنات سكانها خريطة للاتصال بين سكان الشام والجزيرة العربية وسكان وادي النيل، وربما أبعد من ذلك في فترات توسّع نفوذ مصر وجغرافيتها.
تبدو سيناء مغرية للبحث الأنثروبولوجي، بما تمثله من ميدانٍ غنيّ للدراسة، وما يتصل بعلم الأنثروبولوجيا ذاته من شمولية، بفرعيه، الثقافي والاجتماعي، وتقاطعه مع علوم التاريخ والجغرافيا والسياسة، ودراسة الشعوب والقبائل، ومكوّنات البناء الاجتماعي. دراسة عباس مصطفى عمّار (1904 - 1974) "سيناء المدخل الشرقي لمصر" نشرها أول مرة في العام 1946 المعهد العلمي الفرنسي في القاهرة، جزءاً من رسالة للماجستير، وفي ظل توجه قسم الجغرافيا في جامعة فؤاد الأول، بالاهتمام بالأقاليم المصرية. تتصف الدراسة، بالشمولية وغزارة التفاصيل، وقد أعاد نشرها كتاباً المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2014 (239 صفحة) بمقدمة وليد نويهض، يستعرض فيها أهمية الدراسة ومنهجها وسياقها الزمني، متتبعاً موقع سيناء في محطات الصراع العربي الصهيوني. وكانت إعادة نشر الدراسة، ضمن سلسلة طيّ الذاكرة، متسقة مع أهداف السلسلة من "البحث عن المفيد والمتميز وربما المنسي أملاً بترميم الجسور المعرفية ضمن عملية إعادة الوعي".
يهدي عمّار، الحاصل على الدكتوراه في علم الأجناس من كمبردج 1942، الدراسة إلى روح رئيس الديوان الملكي، أحمد حسنين. ربما لسببين، الأول يذكره في المقدمة، اعتراف بأثره فى الكشف الجغرافي. وربما تفيد الإشارة إلى كتاب حسنين "في صحراء ليبيا"، والذي يتناول، بأسلوب قصصى، تفاصيل الأماكن، والقبائل التي تعيش في صحراء ليبيا وصولاً إلى غرب السودان وبعض قبائلها من الزغاوة والفور، وقدّم له رئيس الجامعة حينها، أحمد لطفي السيد. وربما السبب الثاني للإهداء تأثر الباحث، الشاب حينها، بحادثة وفاة حسنين (فبراير/ شباط 1946) بعدما صدمته سيارة نقل أعلى كوبري (جسر) قصر النيل.
دبّ نزاع حدودي بين الدولة العلية (السلطنة العثمانية) والخديوية المصرية، ففي فرمان تولية عباس الثاني، حاولت السلطنة ضم سيناء إلى نفوذها
وعلى كل حال، تعدّ دراسة عمّار ضمن أهم الدراسات عن سيناء، وتشمل تفاصيل عن طرق التجارة والحج ومناطق نفوذ القبائل وأصولها وترحال بعضها فيما بين شرق الأردن وفلسطين، وارتباطها بالوادي، خصوصا مديرية الشرقية ومناطق القليوبية والصعيد وصولا إلى السودان، وتتضمّن عوامل الجغرافيا وأثر الأنشطة الاقتصادية والحدود في ذلك كله.
واستغرقت الدراسة عملاً ميدانياً متصلاً تسع سنوات، بجانب الاستعانة بقائمة طويلة من الكتب التراثية والتاريخية، منها "تاريخ سينا والعرب" لنعوم شقير، والصادر في 1916، والذي يتناول فيه بالتفصيل تاريخ سيناء وطبيعتها والحياة الاقتصادية وأهميتها وآثارها وعادات سكانها، وقد ظل مرجعاً للبحث والدراسة في ما بعد. وشقير أشبه بجيل من الأنثروبولوجيين الأجانب الذين درسوا مناطق أفريقية ضمن بعثات ومهام رسمية، وهو الموظف الحكومي في وزارة الحربية، الشغوف بكتابة التاريخ الاجتماعي عبر المعايشة في الميدان. ومستفيداً من عمله، استطاع تجميع خيوط كتابه الموسوعي (ما يزيد عن 800 صفحة) ونشره على أجزاء متسلسلة، غير إلقاء محاضرات عن سيناء في عدة مناسبات اجتماعية! وقد شغل شقير (لبناني الأصل) موقع سكرتير اللجنة المصرية للتفاوض والدفاع عن مصرية سيناء، حين دبّ نزاع حدودي بين الدولة العلية (السلطنة العثمانية) والخديوية المصرية، ففي فرمان تولية عباس الثاني، حاولت السلطنة ضم سيناء إلى نفوذها، ثم احتكّت لاحقاً بها "حادثة طابا" وانتهت بترسيم الحدود أول أكتوبر/تشرين الأول 1906، بما يحمي مستقبل مصالح مصر وأمنها، المتمثل في الحفاظ على سيناء ساحة صدّ وحماية طبيعية. وكاد الأمر أن يشعل الحرب، على حد تعبير شقير، بينما رأى بعضهم اعتداء السلطنة على طابا حادثة مؤثرة في الفكر السياسي المصري في ما بعد.
كان نعوم شقير يرى أن تاريخ سيناء مجهول لعامة المصريين، بينما يشدّد عمّار، في مقدمة دراسته، "سيناء المدخل الشرقي لمصر" على ضرورة المعرفة الجغرافية للجمهور، بوصفها تشكّل مجتمعهم وتطور تاريخهم. وحسب أستاذ الجغرافيا، عاطف معتمد، والذي حقق كتاب عمار في طبعة جديدة عام 2020 مضافة إليها تفاصيل وتوضيح للخرائط وتصحيح بعض الأسماء، استمرّ المنهج الإقليمي في الكتابة الجغرافية عن أقاليم مصر، وضمّت هذه المدرسة جيلاً من الرواد، منهم محمد عوض وجمال حمدان ومحمد رياض وكوثر عبد الرسول، ويمثل كتاب جمال حمدان رؤية ثاقبة وتمثيلاً لوطنية جارفة، غير الإمتاع بما في النصوص من جماليات.
اتصال وثيق بين سيناء وفلسطين، تحدّده العوامل الجغرافية والأنشطة الاقتصادية
يتناول عمّار بالدراسة أهمية موقع سيناء تجارياً وحربياً، وطريقاً للمواصلات والعبور، بما فيها من موانئ متصلة بالبحر الأحمر ورابطة بشرق أفريقيا والقرن الأفريقي، ومعها ترتبط حركة القبائل والسكان، وتتأثر بعوامل المناخ والموارد والطرق، لترسم خريطة الهجرات الداخلية والخارجية. وتتضمن الدراسة طرق سيناء، ومنها وبعد دخول الإسلام، طرق الحج وفيها تفاصيل عن رحلاته، والذي ظل مساره لأهل شمال أفريقيا نهر النيل، ومنه إلى الصحراء الشرقية وصولاً إلى ميناء عذاب والقصير على ساحل البحر الأحمر، ثم تحوّل إلى سيناء، طريقها الأوسط تحديداً "بعد أن حجّت به شجرة الدر، وسير الناصر قلاوون قافلة الحج عبر سيناء حوالي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي". وكانت الرحلة تبدأ بتجمع الحجاج غربي ترعة الإسماعيلية جنوب الخانكة شرق قرية المرج (تتبع محافظة القليوبية حالياً)، ثم يقطع الصحراء قرب مدينة السويس.
وقد كانت في الرحلة مشاق وصعوبات، منها اجتياز الكثبان الرملية بين السويس وهضبة التيه، وصعوبة مسار العقبة ووعورته. والمشكلة الثالثة المياه المحدودة في درب الحجاج، وغير ذلك هناك مسار المسيحيين إلى دير سانت كاترين خلال القرن 15 و16. وكان يأتي من غزة ويقطع هضبة التيه وصول الوديان الجبلية الجنوبية إلى الدير، وتستكشف هجرات قبائل عربية قرشية من الحجاز (كما الصوالحة وسكن بعضهم قليوب في مصر)، واتصال بعضها بقبائل الحجاز، وقبائل أخرى عبرت إلى مصر من مسالك سيناء، وإليها هبطت من بلاد الشام وسورية خلال القرون الإسلامية الأولى، وما تلاها قبائل أخرى.
ويُستكشف من الدراسة اتصال وثيق بين سيناء وفلسطين، تحدّده العوامل الجغرافية والأنشطة الاقتصادية. على سبيل المثال، كانت أراضي قبائل التياها تمتدّ إلى جنوب فلسطين، خصوصاً بئر السبع، ومساكنهم حتى أوائل القرن التاسع عشر، متركّزة حول غزة وخان يونس، نظراً إلى صلاحيتها للسكنى. وكانت قبيلة الترابين نشطة في الأعمال التجارية ما بين سيناء وغزّة وحبرون، وينسبون إلى عرب الحجاز. بجانب ذلك هناك الاتصال العائلي والقبلي، وهجرات لقبائل سيناء إلى فلسطين والعكس، في رحلات تجارية خاصة لبيع الحيوانات وممارسة أنشطة الرعي، والتي كانت تنظمها مصلحة الجمارك، حيث يدفع على كل رأس ضريبة، وإذا امتنع التاجر تخاطب حكومة فلسطين شيخه، وإذا امتنع تخاطب الحكومة المصرية ليدفع ضريبة الرعي أو التجارة. وبالمقاربة مع ذلك، يستغرب عمّار أن تأخذ الحكومة المصرية ضريبة على دخول التجارة من سيناء إلى مصر، لأن أصحابها البدو يسكنون أراضي مصرية، وهي الضريبة التي كان البدو يشكون منها وطالبوا بإلغائها.
قديماً شهدت سيناء مرور الغزاة وتربّص الطامعين، ومنها اتخذت مصر طريقاً للتوسّع، حين يشتد بأسها فتمدّ نفوذها خارجياً
وفي الكتاب تفاصيل أيضا عن أنشطة التعدين (خصوصا المنغنيز في أم بجمة والتي عمل فيها 500 عامل في 1914) وصيد السمك والسمّان الذي كان يشحن ويرسل إلى بورسعيد ليُصدّر إلى أسواق أوروبا، مرسيليا وأثينا، وقد يصل إلى لندن، والسمّان يهاجر من حقول القمح في روسيا ورومانيا في الخريف إلى وسط أفريقيا ويمر بشمال سيناء.
وفي الدراسة تفاصيل عن مشكلات قديمة لا يزال أثرها باقيا، كما مشكلات نقص في سبل العيش، ووعورة بعض الطرق وعدم وفرة الماء في بعض مناطق سيناء أو قلة عذوبتها، وقد استعان أهلها قديما بنحت الخزّانات في الصخور، منها خزّانات مغارة أم خشب وجبل الحلال، وتسمى الهربات، وقد كانت صعوبة توفر المياه عائقاً أمام الغزوات، وأيضاً أمام تعمير بعض مناطقها.
ويمكن رؤية سيناء، في دراسة عباس مصطفى عمّار (تولى مناصب وزارية بعد 1952 وشغل مواقع قيادية في منظمة العمل الدولية)، موضوعاً للبحث الأنثروبولوجي، بكلّ ما فيها من حجر وبشر وحيوانات وطبيعة وطرق وتاريخ وأهمية وتنوعات سكانية واتصال بين ما يجاورها، خصوصاً فلسطين، وتظهره وقائع تاريخية سابقة على الصراع العربي الإسرائيلي، وخلاله أيضاً. وقديماً شهدت سيناء مرور الغزاة وتربّص الطامعين، ومنها اتخذت مصر طريقاً للتوسّع، حين يشتد بأسها فتمدّ نفوذها خارجياً. وفي سيناء، تمتد حركة الجيوش والمجموعات السكانية، وعبرها ومنها شهدت المنطقة أحداثاً مهمة، ومعارك وصراعات لم تختصّ بها مصر بحدودها المعروفة الآن. وبمعرفة ثقلها يمكن الاستدلال على أهميتها الاستراتيجية، والتي جعلت أي تفريطٍ في أمن سيناء الاستراتيجي والاجتماعي مكمناً خطراً، وضمنه حديثاً إهمال وتأخر في مهام أعمارها وتنميتها، وهي نقيصةٌ وجب إنهاؤها، كما رفع أي شكل أو ملمح من التمييز والحرمان ضد سكانها، لبعض منه جذور تاريخية، يعرفها من يدرس المنطقة. لم ينفصل سكان سيناء عن الوادي، حتى شرارة ثورة عرابي مسّت سيناء حسب رواية نعوم شقير. وكان أهلها وما زالوا حصناً للدفاع عنها، وبطولاتهم في مقاومة المحتل والعدوان الإسرائيلي تستدعي الفخر والاحتفاء.