سياق سياسي لإعلان "المياه مقابل الطاقة"
يمكن النظر من خلال منظورين إلى "إعلان النوايا" الموقّع بين الأردن وإسرائيل في دبي، 22 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بمشاركة دولة الإمارات ورعاية الولايات المتحدة، والذي بات معروفا باسم "المياه مقابل الطاقة". الأول إجرائي قانوني، يضع هذا الإعلان في سياق تفعيل معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية الموقّعة في العام 1994، والتي تنصّ، في الفقرة الثالثة من المادة السادسة التي تحمل عنوان المياه، على: "يعترف الطرفان بأن مواردهما المائية غير كافية للإيفاء باحتياجاتهما، الأمر الذي يتوجب من خلاله تجهيز كمياتٍ إضافية بغية استخدامها، وذلك عبر وسائل وطرق مختلفة، بما فيها مشاريع التعاون على الصعيدين الإقليمي والدولي". بينما تنص الفقرة الأولى من المادة 19 التي تحمل عنوان "الطاقة" على: "سيتعاون الطرفان في تنمية موارد الطاقة، بما في ذلك تنمية المشاريع ذات العلاقة بالطاقة كاستغلال الطاقة الشمسية". وفي هذا، يحاجج مؤيدو "إعلان النوايا" بأن هناك حالة سلام متعاقد عليها بين الجانبين، الأردني والإسرائيلي، وأن الجديد في الأمر اللجوء إلى تفعيل بنود في المعاهدة تحت ضغط الحاجة إلى المياه مع النمو المتزايد في عدد السكان (ارتفع من 6 ملايين في العام 2010 إلى أقل بقليل من 11 مليون نسمة في العام 2021)، وفي مجالات استخدام المياه للزراعة والصناعة، مع بقاء موارده من المياه على ما هي عليه تقريبا، وجزء منها يحصل عليه الأردن من إسرائيل بموجب الاتفاقية (55 مليون متر مكعب سنويا مقابل سنت أميركي للمتر المكعب). وقد اشترى الأردن في الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) 50 مليون متر مكعب من إسرائيل من مياه بحيرة طبريا، لسد احتياجاته المائية المتنامية.
ملف المياه مع الاحتلال الإسرائيلي متشعب، ويعود إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، مع بدء تل أبيب بتحويل مياه نهر الأردن إلى بحيرة طبريا
يقضي المشروع الذي كشف عنه "إعلان النوايا" الجديد بأن تزود إسرائيل الأردن بمائتي مليون متر مكعب من المياه مقابل تزويدها بالطاقة المتجدّدة الكهربائية، وذلك عبر مزارع خاصة في صحراء جنوب الأردن تتولى الإمارات إقامتها، مقابل أن تنال شركتان إماراتيان تنفذان المشروع نصف الأرباح المتأتية عنه، فيما يذهب النصف الثاني إلى الأردن (قدّرت هذه الأرباح بنصف مليار دولار سنويا). وبينما يقول متحدث باسم وزارة المياه والري الأردنية (عمر سلامة) إن الأردن "لم يوقع على اتفاقية مفصلة ومحدّدة، إنما تم التوقيع على إعلان نوايا يسمح بإجراء دراسات جدوى حول مشروع جر مياه محلاة للأردن من إسرائيل، مقابل الطاقة". ومن الواضح، على الرغم من ذلك، أن دراسات تمهيدية قد جرت مسبقاً، وتمخض عنها "إعلان النوايا" هذا.
هناك بالفعل مشكلة مياه في الأردن تجعله في المركز الثاني بين أفقر دول العالم مائيا، وكان يمكن لهذه المشكلة أن تكون أكبر من ذلك، لو أن الأردن مُصنّف دولة صناعية تشهد توسعا صناعيا مطردا. ومع هذا، نجح الأردن، على مدار عقود، في إدارة ملف المياه على درجة من الكفاءة، جعلته يوفر مياه الشرب للمواطنين والسكان، ولأغراض الزراعة والصناعة والتوسّع العمراني والخدمات، بغير انقطاع، ومن دون توقف يًذكر.
أما ملف المياه مع الاحتلال الإسرائيلي فمتشعب، ويعود إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، مع بدء تل أبيب بتحويل مياه نهر الأردن إلى بحيرة طبريا، فيما أقامت بعدئذ سدودا على عدة أودية تصب في وادي الرقاد، وهو رافد أساسي لنهر اليرموك، وبسعة تخزينية تصل إلى 15 مليون متر مكعب. وهو ما يُحتسب انتقاصا من حصة الأردن من النهر الذي يقع معظمه بطول 47 كلم في الأراضي السورية من جملة 57 كلم، هي طول النهر، وقد أقامت عليه السلطات هناك 37 سدّاً.
يتمثل المشروع الذي يكمن خلف إعلان النوايا، وما يشابهه من إعلانات واتفاقيات، بدمج الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العربية
وتسود شكوك عميقة في الأوساط الشعبية الأردنية بنوايا الاحتلال المائية، ويجري التذكير بما جرى عام 1998، حيث أثارت حادثة تلوّث المياه الواصلة من إسرائيل إلى العاصمة عمّان نقمة شعبية على حكومة عبد السلام المجالي، التي اضطرت للاستقالة آنذاك. فيما تتواتر تقارير عن تصريف سلطات الاحتلال المياه العاددمة الخارجة من المصانع الإسرائيلية في مجرى نهر الأردن، وهو ما كان محل احتجاجات أردنية. وهذا ما يقود إلى المنظور الثاني الذي يمكن من خلاله النظر إلى إعلان النوايا في دبي. إذ يشكّل هذا الإعلان تفعيلا لبنودٍ في معاهدة السلام، إلا أنه يفصل بين السياسة والاقتصاد. وقد شهدت حالة السلام بين الجانبين برودا، وأحيانا توترا، خلال السنوات العشر الماضية، على خلفية تنصّل حكومات اليمين الإسرائيلي من موجبات السلام الشامل. وقد جرى تتويج الموقف الأردني الناقد للسلوك الإسرائيلي برفض الانضمام إلى صفقة ترامب نتنياهو التي عُرفت بصفقة القرن، وسعت إلى تسويق سلام اقتصادي عربي إسرائيلي، مع تفريغ الحق الفلسطيني في الأرض من محتواه. وهنا، يتركز نقد معارضة "إعلان النوايا" بكونه يمثل قبولاً بمخرجات "صفقة القرن" لناحية الاندفاع إلى سلام اقتصادي مع دولة الاحتلال في ظروف تجميد الجهود لحل سياسي للقضية الفلسطينية. وهو ما يتحدّث به مسؤولون إسرائيليون جهاراً نهاراً، وفي مقدمهم رئيس حكومة الاحتلال، نفتالي بينت، برفضهم الخوض في مباحثات سياسية مع الجانب الفلسطيني، واكتفائهم من طرف واحد بتفاهماتٍ ذات طابع أمني واقتصادي.
وأبعد من ذلك، يتمثل المشروع الذي يكمن خلف إعلان النوايا هذا، وما يشابهه من إعلانات واتفاقيات، بدمج الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العربية، ونزع المضمون السلبي لهذه الدولة المارقة، وتصويرها على أن وجودها مُفيد للغير، مع تكريس الاعتماد عليها في مجالات حيوية واستراتيجية، إذ سبق أن وقّع الأردن على اتفاقية لتزويده بالغاز 15 عاما مع شركتين أميركيتين، ولصالح جهات إسرائيلية، مقابل 15 مليار دولار. وعليه، يصبح الأردن يعتمد على دولة الاحتلال لتزويده بالغاز والماء معاً، وهما سلعتان حيويتان استراتيجيتان، والمياه، على سبيل المثال، أشد أهمية له من أهمية الكهرباء لدولة الاحتلال. ومغزى ذلك أن الأردن قد يصبح مستقبلاً عُرضة للابتزاز السياسي وغيره، في أشد حاجاته حيوية واستدامة، وهو ما كان يتطلب وضع استراتيجيات مختلفة، تنأى بهذا البلد عن الاعتماد على الطرف الإسرائيلي. هذا من دون التقليل من تأثير الضغوط الأميركية بهذا الاتجاه، فالأردنيون لا يتطلعون سوى إلى إقامة سلام جدّي وفق القرارات الدولية مع الدولة العبرية، وبما يكفل إقامة سلام شامل تنعم به شعوب المنطقة ودولها على السواء.