سورية الجديدة وفلسطين... التوازن المطلوب

02 يناير 2025

عائلات بين بيوتها في مخيم اليرموك بعد سقوط نظام الأسد (29/12/2024 الأناضول)

+ الخط -

في سورية التي تحرّرت من قبضة عائلة الأسد المافيوية الفاسدة، تتكشّف يوماً إثر يوم وثائقُ وحقائقُ تؤكّد بالمعلومة ما كان شبه معروف بالتحليل والقرينة. النظام الذي اعتاش على شعارات المقاومة، وبنى شرعيّته على مزاعم مواجهة إسرائيل، يتبدّى تاريخه اليوم عارياً مفضوحاً. خلف الهتافات الطنّانة اشتغل النظام حارساً أميناً على أمن إسرائيل بعد أن فرّط الأسد (الأب) بالجولان، وتركه محتلّاً عقوداً، حتى يبرّر قمع الشعب وإسكات الناس بذريعة الاستعداد لتحرير الأرض المحتلة وقتال إسرائيل. المُدهش ممّا ينكشف هذه الأيام عمق الدور الوظيفي الذي لعبه النظام في سنواته الأخيرة، ومدى العلاقة المباشرة أو غير المباشرة مع إسرائيل وموسادها عبر رموزه وفاسديه.
ويدلّل على ذلك كلّه، جملةً وتفصيلاً، السرعة التي استغلّت بها إسرائيل في الأسابيع الأولى لإسقاط النظام تدمير ما تبقّى من قدرات عسكرية سورية. يشير ذلك إلى أمر واحد، أن تلك القدرات كانت في "أيد أمينة"، بحسب تقدير إسرائيل، طالما استمرّ نظام الأسد في السلطة. وعندما سقط ذلك النظام لم تعد هناك أيد أمينة تحافظ على استمرار ضمان الأمن الإسرائيلي وسكوت المدافع السورية. هكذا إذاً، وتحوّطاً للأسوأ، انطلقت إسرائيل بشهوة عارمة في تدمير ما دمّرته واحتلال ما احتلته، من الجولان وما بعده.

شروط تحرير فلسطين على المدى البعيد أن تكون سورية ناهضة وقوية ويكون الشعب السوري حرّاً

الآن وبعد تحرير سورية وشعبها من المافيا الأسدية، يتسلّم الحكم الجديد البلد واقتصادها وبنيتها التحتية، وديموغرافيتها المُهجّرة في أسوأ حالة ممكنة، وكأنّ العهد البائد كان قد تعهّد بتدمير الوطن السوري إلى أقصى حدّ ممكن. بعدما يقارب من نصف مليون شهيد قتلهم النظام وحلفاؤه، وتهجير أكثر من عشرة ملايين سوري في الداخل وفي أصقاع الأرض، لنا أن نتخيّل حجم المهام الرهيبة والأولويات الضاغطة التي تواجه السوريين. وفوق التحدّيات الداخلية، وفي مقدّمها بناء كيان سياسي توافقي يشمل الجميع ويتفادى مخاطر الحرب الأهلية، هناك إسرائيل، والقوى الإقليمية والولايات المتحدة، والدول الأوروبية، وروسيا وغيرها، كلٌّ يفتح عيون استخباراته ويريد أن ينهش من سورية الجديدة ما أمكنه. وهناك أيضاً الأطراف الإقليمية التي أصبح عداؤها للإسلاميين مرضياً وسايكوباثياً، وعبّرت عن توتّر متزايد من وصول إسلاميين إلى سُدّة الحكم في دمشق، حتى لو اعتدل هؤلاء والتزموا بما يُرى أنه أقصى أشكال الاعتدال. والغريب في أمر هذه الأطراف الإقليمية العربية تحديداً (استطراداً جانياً) أنه في الوقت الذي تُعادي فيه الإسلام السياسي عداءً وجودياً، فإنها تقبل اليهودية السياسية بأقصى صيغها الأصولية والعنفية والاستئصالية، وتتعامل مع رموزها الحاكمة في إسرائيل، وتمدّ لها البساط الأحمر، علناً وسرّاً. وينطبق الأمر ذاته على سياسة هذه الأطراف ودبلوماسيتها مع أرباب الصهيونية المسيحية المتطرّفة من أميركيين وأوروبيين يجولون في العواصم العربية، التي يرونها جزءاً من إسرائيل التوراتية الموعودة من الربّ.
سورياً، ووسط المشهد المُدوّي بالتدخّلات من الجميع، والتآمر من بعض، أين تقع فلسطين والهمّ الفلسطيني؟... هناك مؤشّراتٌ متناقضةٌ يمكن قراءتها في أكثر من نحو، ومن المؤكّد أن سرعة تطوّر الأحداث في الأرض وسقوط النظام أحدثا وما يزالان ارتباكاً مفهوماً إزاء تحدّياتٍ وأسئلةٍ كثيرة. كاتب هذه السطور، ومن مربّع التأييد العارم للثورة السورية منذ انطلقت، والمعارضة الطويلة لنظام الأسد الذي حرّم عليه دخول سورية منذ عام 2000، يُقدّم هذه المُقاربة، وجوهرها ضرورة بقاء مواقف الحكم الجديد في دمشق وسياساته إزاء فلسطين في المساحة الرمادية، التي توفّر توازناً دقيقاً تفرضه ظروف سورية، فلا تنزلق هذه السياسات والمواقف نحو هذا الاتجاه أو ذاك. تتيح المساحة الرمادية التي يمكن الوقوف فيها مؤقّتاً عدم التورّط في إعلان حرب على إسرائيل، وعدم التورّط في أيّ مسار تطبيعي يدمّر صورة سورية الجديدة من البداية. تتحدّد هذه المساحة الرمادية التي توفّر منطقة أمان سياسي وأخلاقي للحكم الجديد، أولاً في أن إسرائيل دولة محتلة وعنصرية، تحتلّ الجولان السوري، واحتلّت أراضي سورية أخرى بعد سقوط النظام. لا يجوز بالمنطق السياسي والوطني في حدوده الدنيا أن يُطرَح أيّ تطبيع أو أيّ علاقة سلمية مع إسرائيل، وهي تحتل أرضاً سورية (فضلاً عن احتلالها فلسطين). ثانياً، الضغوط الأميركية والغربية كلّها على الحكم الجديد سوف تكون باتجاه ضمّ سورية الجديدة إلى معاهدات ما يُسمّى "السلام الإبراهيمي"، بأيّ شكل، حتى لو لم يكن تطبيعاً كاملاً. سوف تكون مقاومة هذه الضغوط أمراً عسيراً وتحدّياً لا يُستهان به، والسلاح الأهم في هذه المقاومة المطالبة بتحرير الأراضي السورية وعودة الجولان. لا يستطيع أيّ طرف دولي تجاوز حقيقة الاحتلال الصهيوني في الجولان، الذي ترفضه قرارات الشرعية الدولية. الحكم الجديد يمكنه الاحتماء بهذه القرارات، وصدّ الضغوط السياسية والدبلوماسية كلّها عليه مهما بلغت.

السلاح الأهم بيد الإدارة السورية الجديدة مقاومة التطبيع مع الاحتلال والمطالبة بتحرير الأراضي السورية

في الوقت نفسه، وفي الطرف الآخر، لا يتوقّع أحد أن يعلن الحكم الجديد الحرب على إسرائيل، وكلّ مُطالبةٍ للحكم الجديد بما لا طاقة له به غير محقّة، إن لم تكن مزايدةً تهدف إلى الإحراج ليس إلا.
فلسطينياً، يتفهم أغلب الفلسطينيين، الذين اكتوى كثيرون منهم بنار الطغيان الأسدي، الأولويات الضاغطة الحالية أمام أشقائهم السوريين، ولا أحد ينتظر مواقفَ حادّة في وقت تسيطر فيه الهشاشة على المشهد. وفضلاً عن كلّ شي، فإن أولوية بناء سورية وإعمار ما دمّره العهد البائد، وإعادة ملايين المهجّرين هي التي يجب أن تستحوذ على كل جهد، ويؤيّدها كلّ مُحبّ لسورية ولثورتها، التي أنهت حكم الطاغية. خطاب المماحكات التي تظهر بين الفينة والأخرى، ويطلب من الحكم الجديد إعلان الحرب على إسرائيل، ينطوي على سوء نيّة أكثر ممّا يعبّر عن حرص على فلسطين. شروط تحرير فلسطين على المدى البعيد أن تكون سورية ناهضة وقوية ويكون الشعب السوري حرّاً، وأن تكون مصر والأردن ولبنان، وكلّ البلدان العربية، قويةً ومتماسكةً وشعوبها أبية تتنفس كرامةً وحرّيةً بعيداً من الفساد والاستبداد والطغيان. الشعوب الحرّة والقوية والمكتفية تنهض لإسناد الحقّ، حتى لو كان في الواق الواق، فضلاً عن الجوار الأخوي والجغرافي. وكما أن الطغاة جسر للغزاة، فإن الأحرار سدٌّ في وجه الغزاة.