سلام تاريخي مع السعودية يعاكس التاريخ

28 سبتمبر 2023
+ الخط -

برغم المكاسب الإستراتيجية والوجودية التي تجنيها دولة الاحتلال من إبرام سلامٍ تطبيعيٍّ مع السعودية، إلا أن قوى اليمين المتطرِّف في حكومة رئيسها، بنيامين نتنياهو، تبدو مُصِرَّة على رفض تقديم "تنازلاتٍ" للفلسطينيين، من قبيل الإعلان حتى عن "تجميد" الاستيطان في الضفة الغربية، وهي تحذِّر نتنياهو من التعهُّد بذلك، وتهدِّده بالانسحاب من الائتلاف الحكومي بقيادته، وهو الذي كرَّر رفضه تقديم تنازلاتٍ تمسُّ بأمن إسرائيل، (وقصارى ما وعد به، أخيرًا، تقديم "تسهيلات" للفلسطينيين). وهو المعروف بكذبه وكثرة تملصاته وتنصُّلاته من وعودٍ قدَّمها، من قبيل إعلانه الموافقة على دولة فلسطينية، منزوعة السلاح دون القدس، ودون حقِّ العودة، في مقابل الاعتراف بإسرائيل، دولة يهودية؛ إذ كان أعلن في عام 2015 تنصُّله من فحوى الخطاب الذي ألقاه في جامعة بار إيلان، عام 2009، وقال إنه لم يعد ذا صلة.

تُظهر تلك الأحزاب الصهيونية المتطرِّفة تعنُّتًا إزاء التطبيع مع السعودية، إذا كان وسيلة إلى زحزحتها عن مواقفها البالغة السَّفاهة، هي ترفض، حتى لو كان الثمن تدشين علاقات سلام مع دولة كالسعودية، بحجمها، وبتأثيرها، فوفق توقُّعات وزير خارجية الاحتلال، إيلي كوهين، ستنضم ستُّ، أو سبع دول عربية وإسلامية إلى مسار التطبيع، بعد إعلان التطبيع بين إسرائيل والسعودية.

هذا التمنُّع اليميني عن إبداء أيِّ مرونة تُجاه اتفاقٍ ثمين، وصفه نتنياهو بالتاريخي، وهو اتفاق السلام مع السعودية، يكشف عن أمور، منها تأخير المكاسب الخارجية، مهما كانت، عن أولويات اليمين الاحتلالي في فلسطين، مِن فرْض السيادة الاحتلالية على الضفة الغربية، وابتلاع مناطق "C"، كما ظهر في الخريطة التي أبرزها نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتظهَر فيها كلمة "إسرائيل" ممدَّدةً على كامل فلسطين، فيما تغيِّب تلك الخريطة أيَّ ذكْرٍ لفلسطين، حتى "الضفة الغربية". وأن قوى الاستيطان اليهودي المتطرِّف تقدّر أن الفرصة سانحةٌ لاستكمال هذا الهدف.

إسرائيل، وقادتها المتنفِّذون، واقعون تحت أسر تصوُّرات القوة والتفوُّق، مقابل تصوُّراتهم عن الحالة العربية بأنها في أضعف مرحلة

كما يكشف عن تقديراتهم للموقف العربي الرسمي، بصفة إجمالية، أنه ليس وقّافًا على حلٍّ للقضية الفلسطينية، وأن المصالح الذاتية، وَفْق تقدير النُّظُم المتشوِّقة إلى تطبيع كامل مع دولة الاحتلال، مقدِّمةٌ عندها لانتظار حلٍّ يفي بالحدِّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية. ليست هذه التقديرات قائمة على فراغ، إذ عزَّزها، مثلًا، غيابُ الحديث عن المبادرة العربية التي تشترط التطبيع الكامل بالانسحاب من الأراضي المحتلة، عام 1967، وقيام دولة فلسطينية، معترف بها دوليًّا، وعودة اللاجئين، وترجمتها سياساتُ دولٌ عربية، تحلَّلت من عبء الشأن الفلسطيني، ومضت في طريقها نحو علاقاتٍ تطبيعيةٍ مع دولة الاحتلال، حتى وتلك الأخيرة، تبلغ أوْجَ تجاهُلها الحقّ الفلسطيني، وللوجود الفلسطيني ذاته، وللصِّلات والاعتبارات العربية والإسلامية، كما يتجلّى في انتهاكها الممنهَج المسجد الأقصى، أكَّدَ هذا التحلُّل أنور قرقاش، مستشار رئيس الإمارات، حين أقرّ بأن "اتفاقات أبراهام" ناجحة، وأنها استمرَّت على المستوى الإستراتيجي، بغضِّ النظر عمَّن يرأس الحكومة الإسرائيلية، مضيفًا أن هذه الاتفاقات "لم تصمَّم لحلِّ القضية الفلسطينية".

وعليه، يسعى نتنياهو إلى تمرير فكرة أنّ السلام مع إسرائيل حقيقة واقعة، وأنه مصلحة لا ينبغي تفويتُها، أو تأخيرُها، وأن توسيع اتفاقات السلام مع دولة الاحتلال سيعمِّق استقرار تلك الأنظمة السياسية، وأنه سيفتح الآفاق في المنطقة على مشروعات اقتصادية واعدة وكبيرة، مع أن السعودية ليست من الدول التي تستدرجها، أو ينبغي أنْ تؤرِّقها مطالب اقتصادية. مع أنَّ شيئًا من تلك النتائج الباهرة لم تلمسها دولٌ عربية سبقت إلى التطبيع والسلام، بدءًا بمصر، ثم الأردن، فلم تنعكس آثار السلام، لا على الدولة، في البلدين، ولا على الشعبين، المصري والأردني، مثلًا، فضلًا، عن سائر الدول العربية، منها المغرب والسودان، فالأزمات الداخلية، وهشاشة البنى المختلفة لا تعوِّضها اتفاقاتٌ خارجية مع دولة عدوانية الطابع، والأساس. فهذا السلام مقابل "السلام"، وفق ما ذكرت قناة كان أن رسائل التأييد التي بعث بها وزراء "الليكود" إلى نتنياهو، بعد إلقاء خطابه أمام الأمم المتحدة، شدَّدت على أنه يجب التوصُّل إلى اتفاق التطبيع مع السعودية على أساس معادلة "السلام مقابل السلام"، هذا "السلام" يتجاهل، بكلِّ صفاقة، سببَ النزاع، ومحلّه، وهو فلسطين، وداعيه؛ نتنياهو، يوشك أن يمنَّ به على العرب، بل وصلت الوقاحة بزعيم المتطرّفين، نتنياهو، أنْ يجرِّد الفلسطينيين من حقِّ الاعتراض على اتفاقات السلام مع الدول العربية، وكأنهم لم يعودوا طرفًا، أو أنهم شأن داخلي إسرائيلي.

يتمنُّع اليمين الإسرائيلي المتطرّف عن إبداء أيِّ مرونة تُجاه اتفاقٍ ثمين، وصفه نتنياهو بالتاريخي، اتفاق السلام مع السعودية

يريد نتنياهو، بهذه الاتفاقات التطبيعية، تعزيزَ موقعه، وسلطته، وتريد به دولة الاحتلال، ككل، تجاوُز القضية الفلسطينية، واستحقاقاتها، كما تطمح إلى توسيع اندماجها في المنطقة العربية، والإسلامية، اقتصاديًّا، وإستراتيجيًّا، مع أن هذا المراوغ، نتنياهو، يعود، فيقول "السلام مع الدول العربية سيزيد من فرص السلام بين إسرائيل والفلسطينيين"، ولا نعلم أيَّ سلامٍ هذا الذي ستزيد فرصه، بعد أن يكون قد تمَّ تجاوُزهم؟!

وبعد، إسرائيل، وقادتها المتنفِّذون، واقعون تحت أسر تصوُّرات القوة والتفوُّق، مقابل تصوُّراتهم عن الحالة العربية بأنها في أضعف مرحلة. قياسًا على ما سبق، أيّ أوراق تملكها الدول العربية والإسلامية الراغبة في التطبيع مع دولة الاحتلال، لتستخدمَها، لحمْل الأخيرة على إيقافٍ فُجائيّ، لتلك الاندفاعة الأيديولوجية المتعالية؛ الحثيثة على الأرض، نحو مزيدٍ من الاستيطان والتهويد؟

ولا مقدِّمات على تغيُّرات اجتماعية مجتمعية في التوجُّهات الفكرية والدينية، ولا في المواقف السياسية من مفردات الصراع، تسمح ببناء اتفاقات سلام، تدفع حكومة الاحتلال إلى تقديم "تنازلاتٍ"، وهي لا ترى نفسها مضطرّة إليها... ومن جهة أخرى؛ كم له هذا الاتفاق، في حال تحقَّق، بتلك الخفّة، من حظوظ البقاء والصمود، بالنظر إلى دروس التاريخ، وبالنظر إلى معطيات الصراع؟