سد النهضة .. نسف اتفاق المبادئ الآن وليس غداً
يصرّ نفر من مصريين منتسبين للعمل الإعلامي، قليل منهم بحسن نية، وكثير بتواطؤ يبدو مفضوحاً، مع نظام عبد الفتاح السيسي، على الدفاع عن توقيع كارثي لديكتاتورهم المفضل، في العام 2015 في الخرطوم، على ما سمّي "اتفاق المبادئ"، الخاص بتشييد سد النهضة الإثيوبي، كيف لا وهو الذي يخلصهم من عدوهم الفكري اللدود، بالقتل، والاعتقال، والتشريد؛ ثم يوفر لهم الملاذ الآمن تجاه خلق الله، بادعاء أنهم "ضد كل هذا، لكن ما باليد حيلة، وقد أصبح أمراً واقعاً، علينا التطبيع معه والتعايش"، وصولا إلى الانسجام والتماهي؛ دفاعاً عن "بقاء الوطن"!
أي "وطن" هذا الذي يُبنى على جماجم مواطنيه وعظامهم؟ لن يجيبك أحد، ولن تسمع سوى همهمات، أو تأتآت؛ إذا لم ينلك شيء من مصطلحاتهم "الفخيمة"، عن التحليل الرغبوي، والعقلانية، والضرورة، والواقعية؛ وأشياء أخرى كثيرة.
على أن هناك جوانب خطر أخرى، في ما يدلّس به هؤلاء، من كان حسَن النية، منهم، بل وساذجاً، ومن اختار التواطؤ، واحترف التدليس المبكر، بحثا عن عودة إلى مقعد بالقرب من الديكتاتور المفضل، كيف لا وهم يتوهمون أنه بلغ درجة التمكّن، والاستعلاء في الأرض، ودليلهم أن بعض من كانوا يعارضونه يتقرّبون إليه، أو على الأقل لم يعد لديهم مانع في التطبيع معه، وإعادة تأهيله، وترويجه، وبيعه للناس، حاكماً شرعياً للبلاد، وكأن انقلابا لم يتم، ومجازر لم يرتكبها على مدار سبع سنوات عجاف، تقترب من إتمام الثامنة!
المشكلة، في رأي مدلسين هي الاستقطاب، وليس شيئا آخر، حتى وإن بدأت دوائر ديكتاتورهم المفضّل تبحث إعلان الانسحاب من الاتفاق الثلاثي
الأخطر أن هؤلاء، في معرض دفاعهم عن ديكتاتورهم، الكارثي على البلاد والعباد، يدلسون على الناس، بادّعاء أن الحديث عن أن النقطة الفاصلة، في كارثة سد النهضة، ليست في التوقيع على اتفاق المبادئ، أنجزت خلالها إثيوبيا، وليس قبلها، أكثر من 80% من سد النهضة، وأن الإثيوبيين كانوا ينوون ويخططون لبناء السد قبل التوقيع بسنوات.
لا يرى هؤلاء المدلسون في إعادة الأمور إلى أسبابها الحقيقية دافعاً، إلا بسبب حالة يسمّونها "الاستقطاب السياسي"، وكأن علينا، بمنطقهم المدلس هذا، أن نتفرغ للسفسطة حول "سد الاستقطاب"، أتهمهم بأنهم من بناته الأوائل، لا أن نعمل على نسف النتائج الكارثية لإتمام إنشاء سد النهضة وتشغيله، وفقا للمخطط الإثيوبي! المشكلة، في رأي هؤلاء (أو تدليسهم)، فقط، هي الاستقطاب، وليس شيئا آخر، حتى وإن بدأت دوائر ديكتاتورهم المفضّل تبحث إعلان الانسحاب من هذا الاتفاق؛ أو ربما تمهد لهذا، بل يمعن بعض هؤلاء في ممارسة التدليس، بادّعاء أن إثيوبيا لا تعير هذا الأمر اهتماماً، ولا تعوّل عليه، ولا تستند إليه في تعنتها والتعامل مع محطات التفاوض فرصا ذهبية لإهدار وقت مفاوضيهم المصريين والسودانيين، وجهدهم وتركيزهم، بينما لا تتوقف هي لحظة واحدة عن تنفيذ مخططها وفق برنامجها الزمني، بلا تغيير.
لن تخوض المقالة في تقييم أخلاقي، وإنساني لهؤلاء، و"خلينا في موضوعنا"، وإن كان الموضوع واحدا متشابكا، ذا جوانب متعدّدة، وموضوعنا هنا بتحديد واضح أن التوقيع الكارثي أوصلنا جميعاً إلى هذا الوضع الذي يبحث كل مخلص عن مخرج منه، يستوي في هذا البحث العشاق المستترون للديكتاتور المفضل ومن يرفضون انقلابه باعتباره تأسيسا للكارثة، وكوارث أخرى، بل وحتى الذين يحترفون "دور المعارضة"، ويتماهون معه في أشياء كثيرة.
قبل توقيع الديكتاتور، لم يكن للبنك الدولي أن يشارك في تمويل بناء السد، باعتباره يتعلق بموضوع خلافٍ بين الدول، لم يحسم وفقا لقواعد القانون الدولي
ما هي مشكلة "اتفاق المبادئ"، إذاً؟ باختصار، أنك أعطيت مشروعية دولية لحق إثيوبيا في بناء السد، وتنازلت طوعاً عن ورقتك الأقوى في أي تفاوض، وتتمثل في أنه قبل توقيع الديكتاتور، لم يكن للبنك الدولي أن يشارك في تمويل بناء السد، باعتباره يتعلق بموضوع خلافٍ بين الدول، لم يحسم وفقا لقواعد القانون الدولي؛ وهو ما أعطى لكل الدول ذريعة التمويل والمشاركة، والاستثمار في إنشاء السد، والمشاريع المترتبة عليه.
يحتجّ بعضهم بما يسمى اتفاق عنتيبي الذي وقعته إثيوبيا مع أوغندا، وهذا تدليس آخر يمارسه هؤلاء أيضاً، لأن هذا الاتفاق ليس معترفا به دوليا، ولا أمميا، وإلا لم تكن إثيوبيا في حاجة لاتفاق مبادئ، ولا غيره. .. يقول عضو وفد التفاوض السوداني، أحمد المفتي، الذي اضطر للانسحاب بعد ما رأى من تدخل رؤساء الدول الذي أعطى إثيوبيا كل شيء: "اتفاق المبادئ الموقع في 23 مارس (آذار) 2015، شارك فيه سبعة مستشارين قانونيين من إثيوبيا، وغاب الخبراء القانونيون لمصر والسودان، وهو جاء لإسكات الأصوات التي تثيرها المعارضة في السودان ضد المشروع الإثيوبي. وللأسف، كانت نتيجة الاتفاق الثلاثي لقادة الدول أنه جعل الوضع أسوأ، بـ"نباهة الإثيوبيين"، لأنه تسبب في تقوية الموقف الإثيوبي وقنّن سد النهضة، وحوله من سد غير مشروع إلى مشروع قانونيا، لأن فيه إطار مبادئ. ولم يكن هناك داع لهذا الاتفاق الذي كان يتضمن 10 مبادئ، في حين أن في اتفاقية عنتيبي 15 مبدأ تم الاتفاق عليها بالإجماع، وكانت أفضل من اتفاق المبادئ. كما أن إثيوبيا تدخلت لإعادة صياغتها بما يحقق المصالح الإثيوبية فقط، وحذفت بند الأمن المائي، وهو ما يعني ضعفا قانونيا لاتفاق المبادئ، خاصة أنه لا يعطي مصر والسودان ولا نقطة مياه وأضعف الاتفاقيات التاريخية".
سجل "العربي الجديد" أنه أصبح معتاداً، في كل محطة تتفاقم فيها أزمة سد النهضة، أن تلجأ إثيوبيا للترويج السياسي والإعلامي لما تصفها بـ"مخالفة مصر اتفاق المبادئ"
لن تكون في حاجة إلى جهد كبير لتتيقن أن "اتفاق المبادئ" هو البدء والمنتهى، وملجأ الإثيوبيين وملاذهم حين تواجههم بتعنتهم الجهنمي، خلال المفاوضات. ولعلّه يكفيك الأحدث من تصريحاتهم، فهذا هو وزير الطاقة والمياه الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، يدّعي أن بلاده تنفذ المبدأ الخامس من الاتفاق "بالحرف الواحد"، وأنها أطلعت دولتي المصبّ على جميع الاحتمالات خلال مفاوضات واشنطن، وأن حالة الجفاف تحديداً تقدّر احتماليتها بأقل من 4% خلال أول عامين وفقاً لأكثر التحليلات تشاؤماً، وأنها تلتزم بعدم الإضرار بالدولتين في تلك الحالة، وأن الإخطار المسبق الوحيد، الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق، هو إخطار دولتي المصبّ بأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد. ويتضمن هذا المبدأ بنداً آخر تفسره إثيوبيا لصالحها فقط، هو "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت إلى آخر".
وقد سجل "العربي الجديد" أنه أصبح معتاداً، في كل محطة تتفاقم فيها أزمة سد النهضة، أن تلجأ إثيوبيا للترويج السياسي والإعلامي لما تصفها بـ"مخالفة مصر اتفاق المبادئ"، 2015، وأن تطالب بالعودة إلى الإطار التطبيقي لذلك الاتفاق، كما صدر عن المتحدث باسم وزارة الخارجية دينا مفتي والسفير الإثيوبي في القاهرة ماركوس تيكلي قبل أيام، في محاولة للرد على الهجوم المصري السوداني المستمر على التلاعب الإثيوبي بمسار المفاوضات والإصرار على إنجاز الملء الثاني للسد قبل نهاية يوليو/ تموز المقبل، من دون اتفاق نهائي ملزم على قواعد الملء والتشغيل.
اتفاق المبادئ الذي أصرّ السيسي على توقيعه، بل ويعتبره من إنجازاته، يوفر حماية للتصرّفات الإثيوبية الحالية
وأشرنا أكثر من مرة إلى أبرز سلبيات اتفاق المبادئ أنه حمل اعترافاً مصرياً بحق إثيوبيا في بناء السد، الأمر الذي لم تكن مصر قد بادرت إليه من قبل، وأقرّ ثانياً بحق الإثيوبيين السيادي في إدارته، ولم يقرّر أي جزاء قانوني دولي عليها حال مخالفة الاتفاقيات السابق توقيعها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل، وبصفة خاصة عامي 1902 و1993. وعلى الرغم من أن لجنة الخبراء الدولية، وتقريري المكتبين الاستشاريين اللذين تمت الاستعانة بهما في المفاوضات السابقة، كانت قد أكّدت الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جرّاء المشروع، إلا أن اتفاق المبادئ الذي أصر عبد الفتاح السيسي على توقيعه، بل ويعتبره من إنجازاته، يوفر حماية للتصرّفات الإثيوبية الحالية، فالمبدأ الخامس من الاتفاق، عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت إلى آخر، بشرط "إخطار"، وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان. وتستند إثيوبيا للبند الثاني من هذا المبدأ لتبرّر لنفسها وللعالم أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها ملزمةً في أي حال، لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها "استرشادية"، فضلاً عن أنها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتّباعها، فهي بحسب النص "ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد". ويحمل البند نفسه نصاً آخر لا يخدم الأهداف المصرية، فهو يتحدّث عن "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة، والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد"، ما تعتبره إثيوبيا سنداً لها لتبدأ الملء الأول بالفعل، بالتوازي مع المناقشات، طالما أن السد لم يكتمل بناؤه.
البند الأول من الاتفاق يحرم مصر والسودان من إمكانية اللجوء إلى جهاتٍ دولية لحسم القضايا العالقة
وبالتالي، تسمح القراءة الإثيوبية لهذه العبارات المطاطة وحمالة الأوجه، التي وقّعت عليها مصر والسودان قبل خمس سنوات، بتملص أديس أبابا من واجباتها الطبيعية، وفقاً لقواعد مشاركة الأنهار والقوانين والاتفاقيات الدولية ذات الصلة. كما أنها تقلّل من شأن البند الذي ينص على أنه "لضمان استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزّانات دولتي المصب، سوف تنشئ الدول الثلاث، من خلال الوزارات المعنية بالمياه، آلية تنسيقية مناسبة في ما بينها"، باعتبار أن الآلية التنسيقية لا يمكن أن تكون ملزمةً أو ترتب أضراراً على عدم الالتزام، عكس ما تطالب به مصر من البداية، وانضم لها السودان أخيراً في ذلك.
ولا يخلو المبدأ العاشر من مشكلات أخرى، فهو ينظم "التسوية السلمية للمنازعات"، وهو ما ترتكن إليه إثيوبيا لرفض جميع المقترحات الخاصة بآلية التحكيم الملزمة، فصياغة البند الثاني من المبدأ تفتح باب الوساطة الدولية الملزمة، ولكن بشرط "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو ما لا يتوفر رسمياً في أي وضعيةٍ سابقةٍ أو حالية، بدليل إجهاض مفاوضات واشنطن (فبراير/ شباط 2020)، التي كانت أقرب من أي وقت مضى إلى التوصل لاتفاق. كما أن البند الأول يحرم مصر والسودان من إمكانية اللجوء إلى جهاتٍ دولية لحسم القضايا العالقة، وينص فقط على أن "تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتها الناشئة عن تفسير، أو تطبيق، هذا الاتفاق بالتوافق، من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا".
لهذا ولغيره، فإن نسف هذا الاتفاق، بانسحاب مصري سوداني، الآن، وليس غداً، يمكن أن يمثل نقطة انطلاقة حقيقية لتدارك بعض تداعيات الكارثة؛ فقد مضى الوقت الذي يمكننا فيه تدارك كل التداعيات؛ وتأجيل هذا يعني الدخول في نفق أشد ظلمةً مما نحن فيه.