هذا مشروعنا، وهذه قضيتنا
لدينا مشروعنا الإعلامي المهني والملتزم بمبادئ عامة متعلقة بالانحياز للعدالة والحرية وقضية فلسطين وقضايا الشعوب العربية. وكتبنا من البداية أنّ هذا الانحياز لا يتناقض مع المهنية الإعلامية، ولا يختلف بذلك عما تمتاز به كبريات وسائل الإعلام العالمية، وقد نقل عنها انحيازاً. نحترم المشاريع الأخرى المنحازة لقضايا الشعوب العربية، ولا نرى في التنوع ضعفاً بل قوة. لسنا مشروعاً إعلامياً حزبياً أيديولوجياً، بل مشروع إعلامي مهني يلتزم بضوابط ومواقف.
هل رأيت صهيونياً، إسرائيلياً، تسلّل، ولو مرة واحدة إلى صفحات "العربي الجديد"، في نسختها الورقية، أو عبر بوابتها الإلكترونية؟ الإجابة، لا... متى لمحت، صوتاً، أو صورة، أو تعليقاً، لأي صهيوني، إسرائيلي؛ أو وجهاً من وجوه التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، على شاشة "التلفزيون العربي"، الذي يحتفل بذكرى انطلاقته كل عام في 25 يناير، بكل ما يحمل ذلك من إشاراتٍ واضحة، صريحة، بيضاء من غير سوء؟ لم يحدث قطعاً... هل يمكن أن تأتي بدقيقة بث واحدة، لأحد هؤلاء الذين أشرت إليهم سابقاً، عبر "تلفزيون سوريا"، ولو من باب السهو، أو الخطأ في أية مناسبة؟ لن تستطيع، ولو انتظرت سنين طويلة.
ائتني باستضافة واحدة في "العربي الجديد"، أو "التلفزيون العربي"، و"تلفزيون سوريا"، لأحد شراذم الإرهاب المسلح، الذين شوّهوا صورة أمتنا العربية، والإسلامية، بالقول، والفعل، والإشارة؛ هل يمكنك أن تجد شيئاً من هذا عبر ما يقارب السنوات السبع؟ لم، ولن تتمكّن، فتاريخها لم يلوّث بشيء من هذا، في أي ظرف، وتحت أي مبرّر، أو اعتبار؛ وهو أمرٌ ينطبق كذلك على "الشبيحة"، و"البلطجية"، العاملين في خدمة نظم الاستبداد، والقمع، وقتل البشر في دول عربية كثيرة.
هات لي صحيفة واحدة عربية، وربما دولية، أصابت رأس النظام في أكبر دولة عربية بالصدمة، بعد أيام قلائل من انطلاقتها، فكان أن جيّش إعلامه، وغلمانه، وأجهزته، في معركةٍ غير شريفة، من طرفه، ومن لحظتها، وهو وما زال، وسيظل، حتى زواله، يتلقى الهزيمة تلو الأخرى، أمام مهنيتها، واحترامها مبادئها، وقيمها الإنسانية؛ وهي هزيمةٌ أقرّ بها هو، وكرّرها كثرٌ من المنتمين، والقريبين من نظامه في أكثر من مناسبة، بالتصريح تارة، وبالتلميح مرّات.
هل كان سراً، أو شأناً غائباً عن أحد، أنّ سلطات محور الشر الذي حاصر قطر، وينشر استبداده، وآلات قتله، ومعدّات قمعه، وإرهابه في أكثر من بلد عربي، استنفرت كل إمكاناتها المالية والفنية، لتحجب "العربي الجديد"، عن القرّاء في بلدان هذا المحور، مفتتحة سلسلةً من الحجب طاولت، فيما بعد، بضع مئات من المواقع الإلكترونية، والصحف، حتى بات الأمر مدعاةً لتنديد دولي مستمر، وسبباً في تذيل هذه البلدان أي تصنيف يهتم بالإعلام وحقوق الإنسان؟ هل يخفى على عاقل، وكل منصف، ماذا يعني هذا، وما قيمته، وما مردوده؟
هل كان سراً أو شأناً غائباً عن أحد أنّ سلطات محور الشر الذي حاصر قطر وينشر استبداده وآلات قتله ومعدّات قمعه وإرهابه في أكثر من بلد عربي استنفرت كل إمكاناتها المالية والفنية، لتحجب "العربي الجديد"
أخبرني عن صحيفةٍ، أو محطة فضائية، قدّمت، وما زالت، وستظل تكتب، وتبث، وتنشر عن قضية العرب المركزية، فلسطين، بهذه الكثافة، وبهذا المستوى، وكم نسبة ذلك، قياساً باهتماماتها الأخرى بكل قضية عادلة للشعوب العربية، وقياساً بعمرها الزمني الذي لم يصل بعد إلى عشر سنوات.
أفدني عن رأيك الصريح في حقيقة واضحة، تعلمني فيها عن قنواتٍ، وصحفٍ، ومواقع عربية محترمة، لم تنقل من وعن "العربي الجديد"، وعن "التلفزيون العربي"، سواء أشارت إلى هذا وأفصحت عنه، أو اكتفت بالنقل، والاقتباس، في تقاريرها، وعلى ألسنة العاملين فيها، وضيوفها؛ إلى درجة تصل، في حالات عدد قليل منها، إلى التعيش الكامل على هذا الرصيد من المعلومات.
قبل ذلك، وبعده، أجبني عن السؤال الأهم، لماذا صدرت، وأسست هذه المنظومة الإعلامية الساعية باستمرار إلى تطوير نفسها؟ في أي لحظة كان القرار، والتنفيذ، والانطلاق؟ ماذا عن الأهداف المعلنة، منذ اللحظة الأولى، والتي ترجمتها خطط، وبرامج عمل، وآليات تنفيذ، لا لبس فيها، ولا غموض، ولا مراوغة، بل موقف واضح وخطوات ظاهرة للعيان، تجلت في إعلان الميلاد عن أولها، حين كان السؤال المنطقي، "من نحن؟"، وكانت الإجابة العملية، هي نحن "العربي الجديد".
راجع من فضلك تواريخ الانطلاقة لكل وسيلة إعلامية في هذه المنظومة، لتجد أنها تتوزّع بين ذكرى يوم الأرض الفلسطينية، وانطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير، والشرارة الأولى للثورة السورية، وتذكّر أن ذلك لم يكن خبط عشواء، بل هو اختيار وقرار، ورسالة نعتزّ بها، وإحياء ذاكرة عربية في زمن تتكالب فيه محاولاتٌ لا تعرف التوقف لطمس الهوية، والعبث بالتاريخ، والتلاعب بجغرافية العالم العربي، على يد نظم البطش والاستبداد، والمراهقة السياسية. وهي كذلك سعي دؤوب إلى ترسيخ وعي جديد، متنور وعقلاني وأخلاقي في الوقت ذاته، لأجيال شابة فاجأت العالم كله، وأدهشته في العام 2011، بإصرارها على أن تصنع تغييراً حقيقياً في بلاد العرب، غير منبتّ الصلة بتاريخ نضالي للشعوب، عبر قرون ممتدّة، وبعد عقود طويلة من التكلس، ظن واهمون كثر أنه هو القاعدة التي لا يمكن أن تتغيّر.
أخْبرني، من فضلك، عن مفكر عربي معاصر، اختار أن يربط البحث، والعمل الأكاديمي الممنهج، بنضال حقيقي على الأرض، وفي الشارع، وبين الناس، يتلقى معهم هراوات غليظة من أمن الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فيحوّل ذلك إلى خبرة حقيقية في كيفية صهر الفكر الإنساني بالثورة... ثم دعني أخبرك عن رجل استضافته دولة قطر وهو ملاحق من الصهاينة وأسس بدعم من أميرها مركز أبحاث، أصبح المركز الأهم والأغزر إنتاجاً في العالم العربي. وأسهم في هذه الدولة الراعية وصاحبة المشروع الثقافي والإعلامي في بناء معهد متميز للدراسات العليا، ومنظومة إعلامية (هي فائدة كبرى للثقافة العربية والشعوب العربية تتكامل معه قوة ناعمة لها في الوقت ذاته)؛ وبذل الجهد ووجد الوقت ليشرف عليها تضم طيفاً منوّعاً من الوسائل، والوسائط، بإدارةٍ واعيةٍ تسمح باستيعاب الأفكار المختلفة، بل المتنافرة أحياناً بدأب وصبر، وممارسة الانفتاح والعمل المشترك، قدر ما تسمح به دورة العمل التي تتمسّك بالحرفية، والمهنية، والسعي إلى إنجاز حقيقي. لم تقم هذه المنظومة الإعلامية المهنية غير الحزبية ولا المتحزبة لتنافس أحداً بل لتسهم بطريقتها وأسلوبها في النهضة العربية الجديدة.
أخْبرني من فضلك عن مفكر عربي معاصر اختار أن يربط البحث والعمل الأكاديمي الممنهج بنضال حقيقي على الأرض وفي الشارع وبين الناس يتلقى معهم هراوات غليظة من أمن الاحتلال الصهيوني لفلسطين فيحوّل ذلك إلى خبرة حقيقية في كيفية صهر الفكر الإنساني بالثورة
هذا الرجل يفعل ذلك، وقد اختار معركته، ودائرة أصدقائه التي تتسع لكل مواطن في العالم العربي، بكل عرقياته، وطوائفه، ومذاهبه، وأفكاره، ما دام يتشارك معه في الانشغال الحقيقي، لا الزائف، بهموم هذه الأمة، ليكون بهم ومعهم، في أتون معركةٍ حقيقيةٍ مع كل قوى الاستبداد مهما طالت، واستطالت، فهذه القوى، وسواء كان لها سلطة سياسية، أو أي نوع من التسلط الظالم، هي العدو الذي يسعى إلى هزيمته. وتلك هي معركته الحقيقية، ولأسباب موضوعية، تكلفه كثيراً من محاولات الاستهداف التي لا تتوقف، المعلن منها والخفي، من نظم حكم، ومنظومات أمنية، وإعلامية تعلن ليل نهار، أنه مستهدف.
هذا هو عزمي بشارة، وتلك معركته الحقيقية، لا وقت فيها لخربشاتٍ صغيرة، ولا لمناوشاتٍ تافهة، تضيّع الوقت، وتصرف الجهد في ما لا يستفيد منه سوى كل متربّص بالحلم العربي والتوق إلى التغيير، وانتزاع المكانة التي تليق بالإنسان. هذا هو الرجل الذي لا يجد الشتامون، ومحترفو البذاءة، والابتذال، والتردّي، ما يوجهونه له من انتقادات، سوى أن يستعينوا بتخاريف وبذاءات إعلام عبد الفتاح السيسي، ومحمد بن زايد، ومحمد بن سلمان، أو بنشر شائعات رخيصة تطاول أي نجاح.
وهو أمرٌ يراه بعض المندهشين نوعاً من المفارقة، وأراه "طبيعياً" لمعرفتي بفداحة التفاهات والصغائر والحسد والغيرة حين تتملك صغار النفوس وتجرهم إلى التصرف على نحو يخدم من يفترض أنهم خصومهم.
هو نفسه الذي يلتزم في أفعاله، وردود أفعاله، في موافقاته، واختلافاته، بالأدب وقيم النخوة، والشهامة، والشرف في الخصومة، مع محترفي الشتم، ومروّجي الشائعات، والافتراءات، إذ لا يعقل أن ينجر إليها مفكر عربي صاحب سمعة عالمية. فكونه اختار أن ينحاز إلى قضايا الشعوب لا أن يجلس في برج أكاديمي عاجي، وأن يتخذ مواقف لا أن يترفع على السياسة ببعدها الأخلاقي، خلافاً لما يفعل بعض أقرانه، لا يعني أن يقبل أن يجر إلى مستنقعات البذاءة.
يلتزم بشارة في أفعاله وردود أفعاله في موافقاته واختلافاته بالأدب وقيم النخوة والشهامة والشرف في الخصومة مع محترفي الشتم ومروّجي الشائعات والافتراءات
عزمي بشارة، القادم من ميادين النضال، والفكر، والبحث، والفلسفة، أنجز ما يزيد عن عشرات الكتب بعضها مجلدات، وبعضها أصبح أعمالاً مرجعية في مجالها، ومنها سفره في التأريخ لثورة مصر، ربما هو المرجع العلمي الوحيد الذي يقدم توثيقاً، وشهادات حية، وتحليلاً معمقاً، واستشرافاً لآفاق هذه الثورة العظيمة، ناهيك بعشرات الدراسات والبحوث في مجالات الفكر، والسياسة؛ وما زالت مسيرته الفكرية ممتدة، لتثري الفكر الإنساني، بما ينفع الناس، ويمكث في الأرض...
هذا نحن، وهذا مشروعنا، وتلك قضيتنا، فلينظر كل إلى نفسه، وإلى ما أنجز وينجز.