سجن النظام الريعي
كنت أعملُ، في أواخر التسعينيات، في شركة إعلانات مملوكة للقطاع الخاص، ولكني كنت أعرف أن عمل هذه الشركة مع المصالح التجارية والاقتصادية الخاصة التي تحتاج إلى إعلانات ينتهي به الأمر إلى العرض على شاشات القنوات الحكومية الرسمية أو شبه الرسمية (كانت هناك، وقتها، ثلاث قنوات تلفزيونية: الرسمية، والفضائية، وقناة يديرها نجل الرئيس).
كان الاقتصاد العراقي بمجمله في تلك الفترة يعاني من مشكلاتٍ عميقة بسبب ضغط العقوبات الدولية القاسية وغير العادلة التي كان المجتمع الدولي يريد بها معاقبة النظام، ولكنه عاقب المجتمع العراقي، وسهّل الانهيار المتسارع لمؤسّسات الدولة، وليس سرّاً القول إن الجذر العميق لمشكلات العراق اليوم بدأ من تلك الفترة: حقبة التسعينيات القاسية والمدمرّة.
ولكن هناك مشكلة أخرى أبعد غوراً في الزمن من حقبة التسعينيات، وهي الاعتماد الكلّي على واردات النفط، والذي تصاعد، بالتدريج، مع انحسار مساهمة القطاع الخاص منذ انهيار الدولة العراقية في 1958 على يد ثلّة من الضبّاط المغامرين الذين لا يفقهون في أمور إدارة الدولة شيئاً.
كانت زيادة الاستكشافات النفطية وتراكم أموالها في خزينة الدولة الملكية قد ساعدها على تسريع عملية التنمية في البلد الذي يعتمد اقتصاده أساساً على الزراعة والتجارة، الأمر الذي دفع لتخصيص ما يوازي 80% من ورادات النفط لإنجاز مشاريع البنية التحتية بإشراف من مجلس الإعمار العراقي، وبالتعاقد مع أفضل الشركات العالمية.
لم تفعل حكومات الضبّاط المنقلبين المتتالية حتى انقلاب 1968 البعثي شيئاً سوى الاعتماد أكثر فأكثر على واردات النفط، ثم جاءت فترة السبعينيات بزيادة هائلة في أسعار النفط، وزيادة في الإنفاق العام، ولكن ليتحوّل اقتصاد العراق إلى اقتصاد نفطي بالدرجة الأساس. لذا، كان نشاط القطاع الخاص المرتبط بالدولة بشكل أو بآخر تجارياً، أو اقتصادياً تقليدياً يعتمد على مواد أولية مستوردة، كما هي صناعة الحلويات مثلاً. ولذلك لم يكن غريباً أن أكثر طلبات الإعلانات التي كنا نعمل عليها في تلك الأوقات هي لمواد غذائية مستورَدة. وفي مرّة عملنا إعلاناً عن مرشّات زراعية ترشّد استهلاك مياه السقي، ولكنها مرشّات مستوردة أيضاً.
كان هناك توقّع لدى الخبراء الاقتصاديين بأن هذه السياسة الخاطئة سيجري التخلّي عنها بالتدريج في نظام ما بعد 2003، لصالح فتح الاقتصاد على الاستثمار في الزراعة والصناعات الخفيفة والثقيلة، وتنشيط قطاع الأعمال الصغيرة، وهو قطاعٌ كان واسعاً في العراق. وربما يمكن الافتراض أن عشرين سنة من عمر النظام الجديد كانت كافيةً لإنجاز هذا التحوّل المهم والضروري، ولكن العكس هو الذي حصل، فما زلنا في سجن النظام الريعي الذي يعتمد على النفط بنسبة 90%.
من المحزن أن جانباً من قطاع الأعمال الصغيرة اندثر خلال حقبة الإرهاب والاحتراب الأهلي ما بين 2005-2008، والكثير من الصنّاع والحرفيين. مثال على ذلك صناعة الأحذية، حيث ترك "أسطوات" كثيرون البلد وهاجروا إلى سورية، وصاروا يصدّرون إلى العراق من هناك أحذية سورية مصنوعة بأيدٍ عراقية. ثم لا يعرف أحدٌ ما حصل معهم مع انهيار الوضع في سورية لاحقاً.
لن نحتاج قراءة التقرير الذي أصدره أخيرا صندوق النقد الدولي بشأن العراق، لنفهم أننا ذاهبون إلى أزمات أقتصادية أكبر، فالحكومة الحالية وداعموها من الأحزاب الكبيرة يريدون شراء ولاء المواطنين بزيادة الإنفاق الحكومي، لا بتحرير الاقتصاد العراقي من سلطة الريع، لأنهم إما يجهلون الكيفية لفعل ذلك أو لا يريدون، لأن تحرير الاقتصاد من سلطة الدولة التي تركبها الأحزاب يعني تحرير المواطنين!
أو ربما لأنهم يفهمون أن الإصلاحات الاقتصادية الحقيقية ليست حبّة يبلعها المواطن، وإنما تحتاج إلى زمن لا تملكه هذه الأحزاب، فهي تعرف أن شرعيتها ضعيفة، وتحتاج إلى "رش الأموال" لشراء الولاء والتأييد، حتى وإن كانت هذه الطريقة تغرق مستقبل البلاد بالديون والأزمات الاقتصادية أكثر فأكثر، بالإضافة إلى صعوبة مقاومة شهية هذه الأحزاب المفتوحة لنهم المال العام بالاختلاس وصفقات الفساد.