سؤال الإيديولوجيا الهُوِيّتية
يمكن أن نجد في أقوال النشطاء السياسيين والباحثين الأمازيغيين في مختلف الدول المغاربية نوعاً من الرفض الإيديولوجي الحادّ لمفهوم العروبة وللعرب، وفي أحيانٍ كثيرة، لكل ما يقارب ذلك، أو يخصّه بحكم الارتباط، من انحياز أو تأثير أو أحداث. وقد لا يكون من المفيد الحديث عن المعنى الرمزي، وهو الفعلي والحصري في بعض التجارب الحركية (الكراهية والعداوة والانحياز لأعراق أخرى) عند غُلاتهم، سواء عند وصفهم "الفتح" بـ"الغزو"، أو في اعتقادهم، وفيه ما لا يخفى من الأوهام، بوجود تاريخ خاص بالأمازيغ ليس هناك بين الباحثين الجادّين من يُثبت عراقته أو أصوله البعيدة، سواء تعلق الأمر بالبحث في المصادر المكتوبة أو بالعلامات المنقوشة. أما الحديث عن فرادته أو صحة تطوراته الخاصة أو استقلاله بمجد ليس لغيره، فلعله من الاستنتاج الذي يُراد به، حسب الظرفيات، ابتعاث مجدٍ يمكن أن يصلح سياقاً للدعوة الهويّتية الخاصة، إلخ.
أطوّر هذه الفكرة لأقول إن فيه معنىً معيّناً للهوية، يُراد لها، فضلاً عن الأحقّية التاريخية المدعاة بالقدامة، أن تبرز، إلى أن تسود، في مواجهة العروبة (والعربية أيضاً)، لا في تفاعل وتداخل معها. وأضيف إلى هذا أن الفهم السابق يعلن تأويلاً معيّناً للتاريخ المغاربي الذي دشنه وكتبه "الفاتحون" الأول لشمال أفريقيا عندما يوصف على وجه الخصوص بـ"الإلحاق الجبري" الذي في معناه صراحة ما يمكن الاصطلاح على تسميته "الاغتصاب الجغرافي"، فيكون مُسْنَدُه الأقصى، منطقياً، متمثلاً باعتداء الغاصب على الأرض والسكان والمحاصيل الزراعية إن كانت، وأساساً على الانتماء والثقافة واللغة إلخ، أي تلك الخصوصيات التي تضفي الشرعية والأحقّية على الوجود الاستثنائي الخاص الذي لا يمتزج بغيره إلا إذا كان العنف، والهزيمة واردة بحكم القِلَّة أو التخلّف أو عدم القدرة على المواجهة، هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق الغزو والإبقاء على السيطرة.
وقول قائل إن "الحركة الأمازيغية إنما كانت لإحياء الهوية الأمازيغية، لمحاربة التذويب داخل الهوية العربية، التي فُرِضت علينا جبراً"، مع التلويح بالإرادة الخاصة في المجابهة والمواجهة "نناضل من أجل فرض أنفسنا، نناضل من أجل أن نقول لا، أنا موجود أنا لي هوية مميزة. أنا أمازيغي وهذا حقّي. أنا لستُ عربياً"، يمكن اعتباره، ولو أنه مكرور، تعبيراً شاذّاً، مع ما فيه من ملامح التطرّف اللفظي (والسياسي كذلك)، عن الخصاص الظرفي الذي يحمل على المعارضة، من غير أن تكون هذه أصلاً ذات محتوى فكري، أو لها من المبرّرات ما يسندها في البحث والمطالبة.
إن النزوع الهوياتي، علماً أن مطالبه الثقافية واللغوية أساسية، بل وجوهرية، يتحوّل إلى تعبير نرجسي، وفي بعض الأحيان يتوسل بالمظلومية التاريخية
موضوع الفتح الإسلامي المقرون بالغزو، أو بالتذويب، لا يصمد في وجه أي تحليل منطقي معقول، مهما كانت مقدّماته التاريخية وأسانيده الثقافية والإيديولوجية، وأساساً لغياب المَصَادِر الصميمة التي يمكن أن تكون مرجعاً له في التحليل أو في المطالبة أو في استخراج المهام الواجب النضال من أجلها أو العمل وفقها. أضيف إلى ذلك أن كل ما قيل عنه، وهو كان على فترات استمرّت تقريباً قرابة قرن، إنما كان بعده ولاحقاً لوقوعه في الزمن. ثم إنه لا يمكن أن يكون مبرّراً لابتعاث هوية ما لأنها أصبحت هوية إثنية "جامدة" فقدت مبرّرات استقلالها وخواصها الذاتية بفعل الاندماج، حتى ولو كان قسرياً، الذي اندمجت فيه أو اندمج فيها (التاريخ البيزنطي قبل العربي الإسلامي مثلاً)... وإلا كان من الضروري ابتعاث جميع الهويات التاريخية التي ظهرت في مجرى التطوّر الإنساني عبر العصور، وهي كثيرة، ثم فقدت مبرّرات الاستمرار بسبب من الأسباب الموجبة لذلك، ولا أرى ذلك من الناحيتين المعرفية والإنسانية.
أما أنه واقعة تاريخية يجب النظر إليها في إطار التوسّع الإسلامي الإمبراطوري (الفتوحات) المسنود بتطوّر تاريخي وحربي، فضلاً عن الأدوات الثقافية والفنية والعمرانية (مفاهيم الدين، تعليم القرآن، الدخول في الإسلام) التي اندرجت في مجاله، وعبّرت عن مستوى العاملين في سبيله منذ القرن السابع الميلادي في ما يبدو، فلم يكن الفتح (أو الغزو) من هذه الناحية سوى امتداد تاريخي لفكرة نشر الدين الجديد (الإسلام) مع ما يحمله هذا النشر لطبيعته الحربية التوسّعية، لا في ارتباطه بالعقيدة، من آثار لا يمكن لها إلا أن تُحْدِثَ ما تُحدثه الحروب والتوسّع من تدمير وسيطرة، فضلاً عن الاستغلال (حيازة الممتلكات، التجارة،...) والتمكّن من الخيرات إلخ، وذلك كله بالمبرّرات الإيديولوجية التقليدية المرتبطة بالتفكير الديني، أي ما مفاده "تنفيذ أمر الله من خلال نشر الدعوة وإيصالها إلى كل البشر من أجل إقامة الحجة عليهم أنْ يَقُولوا يوم القيامة لم يَأتِنَا مِنْ هَادٍ ولا نذير". والفتح، أو الغزو، لا يقضي على الهوية والخصوصيّة، بل يحوّلها بالقوة قاصداً إدماجها في المتن الجديد الغالب، ثم لا تستطيع التحرّر منه، رغم الحفاظ الممكن على الأصول والبواعث المقموعة، إلا عندما تُصبح، بحكم الاستمرار والتطوّر في الزمن، جزءاً مندغماً (لا نقيضاً) في "الهوية المركزية" التي يجعل منها التاريخ، في علاقة بالجغرافيا الطبيعية (البلد، الوطن)، علامة على تميّز ما، وهنا الاختلاف الذي يخترق طبيعة الموجودات، ودلالة على خصوصية، وهنا الفرادة التي غالباً ما تُقاس بغيرها من أشكال الفرادة الموجودة في الهويات الأخرى، وذلك كله ضمن ديناميكية متفاعلة تتحرّك بها الهوية وتتغيّر في أفق البحث عن انسجام الأنا الجماعي.
إن النزوع الهوياتي حجّة فلسفية للدفاع عن "التفوق الطبيعي" الذي هو في حقيقته يوتوبيا ارتدادية تبشر بإعادة تكوين أو إحياء "الجماعة" كـ"هوية حصرية"
ويحقّ لمن يفهم التطور في سياقه التاريخي أن يسائل الناشط الأمازيغي المنافح عن الهوية الصافية الخالية من شوائب العروبة: من أنتَ في "فُرٍضَتْ علينا جبراً" التي تَذْكُرُها؟ ومن وَكَّلَكَ بحق التعبير عن الجماعة الملغية؟ ثم ما الهوية العربية التي ذَوَّبَتْكَ؟ والأخرى الأمازيغية التي يجب إحياؤها؟ أسئلة يطرحها الباحث في وجه التعصّب والإقصاء الذي يتسلّح به الناشط السياسي المعارض، ولا يريد منه جواباً، لأن السائل يعلّل مجرى التاريخ من الوجهة العقلية التي ترى في الأحداث التاريخية الكبرى تطوّراً لا يفهم إلا سعياً لتحقيق الغلبة بمختلف الدواعي (المتشابكة غالباً) التي تقود الفعل إلى بلوغ الهدف، بينما الناشط الأمازيغي يتفاعل أكثر من التطورات الإنسانية في المراحل الديمقراطية المتأخّرة، أي عندما أصبح هاجس الهوية بحثاً عن الذات، من أجل تحقيب حضورها في التاريخ المعاصر، على أساس الخصوصية (التاريخ الغائب أو المُغَيّب) لا الكونية، هو المطلب الذي يحقق الوجود، من خلال الاعتراف بجدواه أو أهميته أو أحقيته، ضمن الدولة الوطنية العصرية. والهوية في هذا ليست إلا ذلك المفهوم المستعمل أساساً كرديف للوجود الشخصي، الفردي، القائم على مميّزات أساسية لا تعبأ بالتأثير التاريخي والثقافي والاجتماعي، أو تستصغره في جميع الأحوال.
والمثير في هذا السياق أن هناك جهات أجنبية تتفاعل مع هذا الوضع في ارتباط بمصالحها الأكثر "إمبريالية" على الصعيد العالمي. ولن أشير هنا إلا إلى التقارير التي تعدّها السفارات الأميركية عن حقوق الإنسان في البلدان التي تعتبرها غير ديمقراطية، أو في الطريق إلى الديمقراطية التي تفترضها لها. وفي تقرير للسفارة الأميركية في الجزائر، مثلاً، لم يمضِ عليه التقادم، كتابة ملغزة "تؤكّد" أن "جماعات أمازيغية تعاني من فقدان تقاليدها ولغتها بسبب التعريب"، وفي فقرة من فقراته تحريض واضح على المقاومة كأحد الحلول الممكنة لإرغام الدولة الجزائرية على الاعتراف بـ"النزعة القبائلية"، إلخ. فلا يفهم ذلك خارج النطاق الوطني المحلي، بصرف النظر عن صحته أو خطله، إلا أسلوباً للتحريض ضد العنصر العربي، هذا فضلاً عن طبيعته في علاقة بالدولة الجزائرية كوصاية واتهام مباشر تريد به الخارجية الأميركية الظهور بمظهر من يدافع عن حقوق الإنسان على الصعيد العالمي، والتعبير ضمنياً عن سَوَاءِ الديمقراطية المتبعة في بلدها، "ديموقراطياً" و"جمهورياً" على حد سواء.
تأخذ قضية الهوية في سياق التطوّر السياسي والاجتماعي لأكثر من بلد مغاربي شكل التعارض، وفي أحيانٍ كثيرة شكل المعاداة
أريد الوصول إلى خلاصة كبرى مفادها بأن الأقوال والتصريحات المذكورة تستمدّ "روحها" الهوياتيه من القراءة الممكنة التي لا يمكن أن تكون إلا تأويلية، للتاريخ القديم في تفاعلها مع التطورات الحادثة في الزمن الحالي المليء بالدعوات والنماذج والتطوّرات والمطالب البشرية والأوضاع الاستثنائية، وكذا في علاقة متطورة بالإعلان العالمي لحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليّاتٍ وطنيةٍ أو إثنيةٍ، دينيةٍ أو لغويةٍ، وبالخصوص لمادّتَيه الأولى والثانية اللتين تنصّان على حقّ تلك الأقليات في صون هوياتها وتطويرها، وأنَّ على الدول أن تُصْدِرَ تشريعات مناسبة للوصول إلى تلك الغاية، مع التنصيص على الحقّ في التمتع بثقافتهم الخاصة والحفاظ على أديانهم ولغاتهم بطريقة حرّة ومن دون تمييز من أي نوع كان.
هنا نكون في الحقيقة في صلب الموضوع القومي (العرب) في تناظر مع قضية الهوية التي تأخذ في سياق التطوّر السياسي والاجتماعي لأكثر من بلد مغاربي شكل التعارض، وفي أحيانٍ كثيرة شكل المعاداة. خصوصاً أن أغلب من يقومون بذلك ويشرفون عليه بمختلف الوسائط المناسبة، وغير المناسبة، هم من النشطاء المنظمين في جمعيات مدنية معارضة من الوجهة السياسية لمختلف مظاهر التسلط، أو ما يمكن اعتباره تسلطاً، من الدولة الوطنية. ولمّا كانت هذه الدولة على الصعيد المغاربي قد تأسّست في سياق التجربة الاستعمارية أو الحمائية، ثم تطورت في العهود الاستقلالية، وخصوصاً منذ مطالع الستينيات على وجه الخصوص، في ضوء الدعوات الوحدوية (مفهوم القوة) (الجزائر ثم ليبيا منذ 1969)، أو في تعارض معها (تونس، المغرب) التي شكلتها حركات ومنظمّات التحرير (الاتحاد) للتخلص من الحجر وبناء وجودها الخاص، فإن النزوع الهوياتي، علماً أن مطالبه الثقافية واللغوية أساسية، بل وجوهرية، يتحوّل إلى تعبير نرجسي، وفي بعض الأحيان يتوسل بالمظلومية التاريخية، عن "قومية عنصرية"، ويمكن اعتباره أيضاً حجّة فلسفية للدفاع عن "التفوّق الطبيعي" الذي هو في حقيقته يوتوبيا ارتدادية تبشر بإعادة تكوين أو إحياء "الجماعة" كـ"هوية حصرية"، انطلاقاً من عناصر دينية أو إقليمية أو وطنية ضيقة تعارض ما عداها بإطلاق.