زوجي يتلعثم
لم نعتد سماع مصطلح التنمُّر إلا في السنوات الأخيرة، واكتشفنا أنه مصطلح فضفاض يتسع لتصرُّفات كثيرة سيئة، مثل التي يقوم بها التلاميذ في المدارس مع بعضهم، على سبيل بسط النفوذ والسيطرة. وقد سارت الحياة على نحو بديع، ونحن نستسلم للأزعر في حارتنا. وسارت على نحو بديع أيضا، حين كنا نسخر، ونضحك من ذوي الإعاقات الخلقية الذين كان من حولهم يقلّدونهم في التعاطي مع إعاقتهم، وكان لنا لقاء يومي؛ لكي نقلِّد طريقة كلام شخصٍ يعاني من تعثر الكلام مثل " التلعثم"، حيث خُصِّص يومٌ عالميٌّ (22 أكتوبر/ تشرين الأول) للذين يعانون من اضطراب كلامي، إذ يتعطَّل لديهم تدفق الكلام، بواسطة التكرارات اللاإرادية، أو إطالة في الأصوات، أو في المقاطع الصوتية، أو في الكلمات، أو في العبارات. ولكن، ويا لعجب العجاب، فقد مرَّ ذلك مرور الكرام، في زمنٍ مضى، ولم يقم أحد باقتيادنا كـ"شلَّة" إلى مكتب حضرة الناظرة بتهمة التنمُّر على تلميذةٍ تعاني من التأتأة، مثلا، بل على العكس، فقد كانت تضحك معنا، حين نضحك على طريقتها في النطق. أما أشهر النكات التي كانت متداولة في الثمانينيات والتسعينيات فهي عن الشخص الذي يعاني من التلعثم، وهو يسأل عن موعد إقلاع القطار، فيجيبه الذي استوقفه في المحطة، بأنه لو لم يسأل، لكان قد لحق بقطار رحلته!
يا للعجب العجاب، نكرّرها ثانيةً، فلم يكن هناك وصفٌ للسخرية يحمل اسم " تنمُّر". ويبدو أنك فكرت طويلا بأصل المصطلح، قبل أن يصبح شائعا، حتى أن أحد أشهر المسلسلات التي تحمل رسائل تربوية لم يخلُ من التنمُّر والسخرية، من هيئات الأبطال، وطريقة كلامهم، وهو مسلسل "يوميات ونيس"، والذي تناول حياة عائلة منذ أن كان أبناؤها أطفالا، حتى كبروا، وتزوجوا. ورصد تغيرات اجتماعية وسياسية، ففي هذا المسلسل لم يترك البطل الأب (ونيس) أي شخصية، إلا وكان يلحقها بلقب أو تشبيه مثل "عبلة الهبلة". كنا نضحك فعلا، ولم يقدّم أحدا شكوى ضد أسرة المسلسل، فيما قامت الدنيا ولم تقعد في رمضان الماضي، حين عرضت حلقة لبرنامج "كاميرا خفية" يطلب فيه أحدهم تقليد أحد أصحاب الهمم.
يبدو موقف المجتمع من المتلعثمين غير واضح؛ فأذكر فتاةً تمّت خطبتها لشاب ثري، ولكنه يعاني من التلعثم في الكلام. وفي يوم زفافها طلبت منه ألا ينطق بكلمة واحدة؛ ردًّا على مجاملة المدعوَّات، ولكنه لم يطق صبرا على الصمت؛ فلجأ إلى قاعة الرجال، وجلس بينهم، ومارس هوايته المحبَّبة في الثرثرة، وسرعان ما وصل صوت الضحك إلى قاعة النساء، حيث تجلس العروس؛ فانسحبت المدعوَّات من حولها؛ ليسترقن السمع لطريقة العريس في الكلام، والتي لم يستطع إخفاءها، حتى انتهاء الحفل، وودَّعتها صديقاتها، وكلُّ واحدة تقلِّد طريقة العريس في الكلام في كلمات وداعها المؤثرة، والمتمنِّية لها حياة سعيدة مع شريك العمر.
على الجانب الآخر، التلعثم أحد أسباب طرد المقبول لوظيفة حكومية، بعد اجتيازه كلّ الاختبارات التحريرية؛ لأن التعامل مع الجمهور، وخصوصا التلاميذ، هو الأهم، ولا يمكن للمعلم أن يكون من أهل "التأتأة والتهتهة" مثلاً.
وعمومًا، تغيَّرت الحياة، فعلًا، وأصبح لا بدَّ من الاحتفال بيوم عالمي للتلعثم؛ لأن وسائل التواصل الاجتماعي لم تترك حجرًا في موضعه، حتى قلبته، وكشفت ما تحته، على وجه البسيطة؛ فيكف تترك هؤلاء المتلعثمين من دون تنمُّر؟ هم فعلا يعانون من التنمُّر، وأصل المصطلح هو النمر الغاضب ذو الطباع السيِّئة، وليس هناك أسوأ من إنسانٍ يسخر من أخيه الإنسان، أو ينتقد مرضًا أو عيبًا أصابه، ولذلك لا بد من يوم تضامن مع المتلعثمين، حتى لو كان لبعضهم قنوات على "يوتيوب" يصولون ويجولون فيها، بحرِّية، ويجنون الأموال؛ مقابل ضحك الآخرين على طريقة كلامهم، ولك أن تقول: "لله في خلقه شؤون".