زلزال عشية انتخابات مصيرية في تركيا
أحدث زلزال 6 فبراير/ شباط الحالي في جنوب شرق تركيا وشمال غرب سورية، تحوّلاً في سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية، التي كانت تستعد لإجراء انتخابات مصيرية بالنسبة للحزب الحاكم ورئيسه، رجب طيب أردوغان؛ لأن الزلزال وجّه كل الأجندة الانتخابية للتحالف الحاكم صوب كيفية التعاطي مع تلك الكارثة في تركيا، ومعالجة آثارها الانسانية والاقتصادية والاجتماعية، والتي لم تنتهِ بعدُ تقديرات حجمها. هذا الملفّ، معالجة آثار الزلزال، وتعويض المنكوبين، يشكّل الآن التحدّي الأكبر أمام الرئيس أردوغان، في ظل أوضاعٍ اقتصادية ومعيشية متردّية، وسيكون له الأثر الحاسم في أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والمفترض أن تبدأ في 14 مايو/ أيار المقبل، إذا ما تم تأجيلها بتمديد حالة الطوارئ إلى أكثر من ثلاثة أشهر في المناطق المنكوبة، فالتجارب السابقة للكوارث في العالم، ومنها زلزال 1999 المدمّر في تركيا، أثبتت أن طريقة تعاطي الحكومات مع نتائج هذه الكوارث سيكون لها أثر كبير، يمتد سنوات، في تقرير مصير هذه الحكومات؛ فقد صعد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بعد فوزه بأغلبية 34% في الانتخابات البرلمانية في 2002، نتيجة سخط الشعب من أداء الحكومة بعد زلزال 1999.
هذا يعني أن مسألة تأجيل الانتخابات مرتبطة بمدى نجاح حكومة "العدالة والتنمية" في معالجة آثار الكارثة، فالفشل سيعني تمديد حالة الطوارئ أشهرا لاحقة، وتأجيل الانتخابات، بينما النجاح في هذا الملف سيرفع من رصيد الحزب، وبالتالي، من مصلحته تسريع الانتخابات. أعلن الرئيس التركي حالة الطوارئ في البلاد ثلاثة أشهر، أي أنها ستنتهي قبل موعد الانتخابات بأسبوع، وحذّر في خطابه الأول بعد الزلزال بأنه سيستهدف الأفراد الذين "ينشُرون الأكاذيب" عن الكارثة الوطنية؛ وبالتالي هو سيسيطر على وسائل الإعلام، ويوقف التقارير التي تلقي باللوم على الحكومة، باعتبار أن تركيا لم تعتمد "كود الزلازل" في الأبنية حتى 2018، بعد عقدين من زلزال 1999، مع غياب الرقابة على تطبيق تلك التشريعات على الأبنية؛ وأن الحكومة تراجعت عن الاهتمام بمعايير السلامة الأوروبية، بعد تبخّر طموحاتها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
التحدّي الكبير أمام أردوغان للبقاء في السلطة بات يتركّز في مدى نجاحه في التعاطي مع الكارثة
ستتيح حالة الطوارئ هذه لأردوغان التملص من إجراءات اقتصادية مريرة اضطر لاتخاذها لرفع رصيد حزبه الانتخابي، مثل تخفيض أسعار الفائدة على القروض، والتي لها أثر سلبي على المدى الأبعد في ارتفاع التضخّم، والذي بالأصل وصل العام الماضي إلى 85%. كما أن أولوية معالجة آثار الكارثة ستتيح له إرجاء سياساته الخارجية، سواء بخصوص العملية العسكرية التي كان ينوي القيام بها في شمال سورية، أو السعي الحثيث إلى التقارب مع نظام الأسد، والعمل على إعادة اللاجئين، وحتى ما يتعلق بمطالبة الولايات المتحدة بصفقة تحديث الطائرات F16 وتأمين قطع غيار لها، والخوض في مساومات إلغاء الفيتو التركي على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، والتي زاد من تعثّرها سماح السلطات السويدية بحرق القرآن الكريم خلال مظاهرة لليمين المتطرف. إذاً التحدّي الكبير أمام أردوغان للبقاء في السلطة بات يتركّز في مدى نجاحه في التعاطي مع الكارثة؛ لكن الأمر ليس يسيراً في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا، والتي سيزيد من حجمها الزلزال الذي ضرب منازل وطرقا وشبكات أنابيب والبنية التحتية في منطقة يقطنها 13.4 مليون نسمة، وهي مناطق صناعية وتساهم بـ9.3% من الناتج المحلي الإجمالي، حيث يتوقع الخبراء أن ينخفض هذا الرقم إلى النصف، وأن يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي بين 0.6 إلى نقطتين مئويتين. وإعادة الإعمار التي تحتاج ميزانية ضخمة، ومدة تتراوح بين ستة أشهر والسنة، تضع ضغوطاً كبيرة على الميزانية العامة. وبالأصل، تعاني خزينة الدولة من تقلص احتياطي العملات الأجنبية؛ لكن تركيا لا تعاني من حجم ديون كبير، والأرجح أن أردوغان سيتجاوز محنة الانتخابات، حيث سيضع كل إمكانات الدولة لمواجهة الكارثة في خطةٍ قصيرة المدى، وحينها سيكون التحدّي الأكبر أمامه مواجهة الصعوبات الاقتصادية والتضخّم على المدى الأبعد.
لم يقدّم منافسو الحلف الحاكم من تحالف الأحزاب الستة المعارضة، أية برامج حول السياسة التركية الخارجية
على عكس ائتلاف المعارضة التركية، طموحات أردوغان وحلفه أوسع من حدود تركيا، لعلها مدفوعة بعوامل دينية وقومية لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، لكن ضمن عالم مختلف، وفي ظرفٍ دوليٍّ حرج، ينقسم فيه العالم سياسياً على إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، وإرهاصات تحوّل مراكز السيطرة باتجاه عالم متعدّد الأقطاب؛ وهنا يجيد أردوغان لعبة استغلال الفرص، بما يمتلكه من مهارةٍ في المناورة بين الأطراف المتصارعة، وسرعة في الاستدارة تمتاز بها الدبلوماسية التركية، إضافة إلى امتلاكه جيشاً قوياً، هو ثاني أكبر الجيوش البرية عددياً في حلف الناتو، فقد أحسن استغلال موقع تركيا الجغرافي على مفترق طرق آسيا وأوروبا وقرب أحواض المتوسط وإيجه ومرمرة والبحر الأسود، ليبني استراتيجية للسيطرة على طرق إمداد الغاز والنفط القادمة من روسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط باتجاه أوروبا، إضافة إلى التنقيب عن الغاز في المياه الوطنية للبحر الأسود وبحر إيجه والمتوسّط. وهناك سياسة أردوغان حول تشكيل سوق مشتركة مع البلدان التركية في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي، وإنشاء منظمة الدول التركية (تمتلك 10% من احتياطات الغاز في العالم)، وتحويل تركيا إلى مركز لتصدير الغاز إلى أوروبا.
لم يقدّم منافسو الحلف الحاكم من تحالف الأحزاب الستة المعارضة، أية برامج حول السياسة التركية الخارجية، سوى خطوط عريضة عن تطبيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتمسّك بعضوية حلف الناتو، ومن دون نقاش كافٍ للمسألة الكردية، وما يتعلق بالأمن القومي التركي، واستطاع أردوغان سحب ورقة المصالحة مع نظام الأسد وإعادة اللاجئين، وسط خلافاتٍ كبيرةٍ بين تلك الأحزاب، والاكتفاء بطرح العودة إلى النظام البرلماني وقضايا ثقافية، مثل العودة إلى اتفاقية إسطنبول لتعزيز حماية المرأة، وغير ذلك؛ ما يعني أن فوز المعارضة يهدّد بنسف كل ما بناه أردوغان على صعيد السياسة الخارجية، ويضعف من مكانة تركيا، ويجعلها ملحقة بالمعسكر الغربي، في غياب البرامج السياسية والاقتصادية لهذه الأحزاب. وهنا يحسم زلزال 6 فبراير مسألة الانتخابات لمصلحة حزب العدالة والتنمية، إذا ما أحسن استغلالها. وفي الوقت نفسه، يلقي على عاتق الطرف الفائز تحدّيات وصعوبات أكبر، قد تمتد سنوات.