رمضان العراق بعيون غربية
يفرد توماس لييل الذي عمل في الإدارة المدنية البريطانية التي حكمت العراق في بدايات القرن المنصرم في مذكّراته فصلا خاصا عن شهر رمضان في العراق، يضمّنه انطباعاته عن صوم المسلمين والمشاهد الرمضانية التي استأثرت باهتمامه في المدن والقرى العراقية آنذاك، مشيرا الى أن صيام رمضان شكّل له ولأوروبيين كثيرين قُدّر لهم أن يقيموا زمنا في الشرق "ظاهرة مؤثّرة على مجمل حياتهم اليومية، ذلك لأن الذين يعملون بمعيتهم من المسلمين يصبحون، بحكم صيامهم، أكثر كسلا وفتورا في عملهم في هذا الشهر، وتكثر حالة الإنهاك لديهم، كما تزداد حدّة غضبهم وانفعالاتهم لدى مواجهتهم أبسط الأشياء". ويردّ على ما يراه الغربيون أن الصيام في الشرق مجرّد عملية استعراضية، إذ يُباح للصائمين تناول الطعام والشراب طوال ساعات الليل"، فيقول إنها "تهمةٌ ناشئةٌ عن الجهل بحقائق الأمور، حيث إن مجرّد ملاحظة ما يُحدثه الصوم في جسم الإنسان يُغني عن أي دليل، إذ قد يصادف مجيء رمضان في بعض السنوات في فصل الصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة نهارا إلى مستوياتٍ عالية، فيما تمتدّ فترة الصوم من الفجر وحتى الغروب، من دون أن تصل إلى فم الصائم قطرة ماء. ولذلك، تعمد الحكومة إلى تقليص ساعات العمل بهدف إعطاء العاملين قدرا من الراحة.
ويصف لييل مشهد رمضان في أحياء بغداد الشعبية في عشرينيات القرن الراحل عندما يقترب موعد الإفطار، حيث تكون المقاهي قد امتلأت بالصائمين الذين يبدو عليهم الإنهاك والتعب، وهم يتجاذبون أطراف الحديث، من دون أن يسمحوا لأنفسهم بالشكوى أو التذمّر، ولو فعلوا ذلك لكانوا اقترفوا إثما، إذ إن أية علامة منهم على استعجالهم موعد الإفطار تقمع منهم بصرامة!
ويبدو المشهد أكثر إثارة عندما يسمع مدفع الإفطار أو صوت المؤذن، حيث يبدأ عمّال المقهى بإحضار "استكانات" الشاي الى زبائنهم على عجل، وحيث إن عدد العمّال عادة ما يكون محدودا، فإنهم لا يستطيعون تلبية كل الطلبات بسرعة. وهنا تبدو الطيبة لديهم، إذ قد يتأخر بعضهم عن الإفطار، ولكن من دون أي تذمّر، وغالبا ما تكون عبارة "الحمد لله" على شفاه الجميع. ورغم أن الصائم يكون متلهّفا لشرب الشاي، إلا أنه يأخذ "الاستكان" بتأنٍّ ويبقيه في يده لحظات دلالةً على عدم ضجره من الصوم، ثم يتمتم بنبرة هادئة "بسم الله الرحمن الرحيم"، قبل أن يرتشفه ببطء، ثم يلحقه بأول سيجارة أو أول ارتشافة من "النارجيلة" إذا كان من المدخّنين. ويفسّر الكاتب هذه القدرة على التحمّل بأنها "واجب على المسلم أداؤه، أما أولئك الذين يفشلون في أداء هذا الواجب فإنهم يعرضون أنفسهم لانتقاداتٍ حادّةٍ تعبر عن عدم الرضا عنهم".
من كان يحمل بندقيته أطلق الرصاص تعبيرا عن فرحته بظهور الهلال، من دون أن يفكّر بما يمكن أن يسبّبه ذلك من خطر على المحيطين به
وعند انتهاء شهر الصيام وحلول العيد، تظهر حالة تفجّر عفوي للحيوية والنشاط لدى أناس متصالحين مع ذواتهم إلى الحد الأقصى، وهم يجدون أنفسهم فجأة وقد تحرّروا من حالة الانضباط القاسي في كبح الملذّات الصغيرة الذي فرضوه على أنفسهم طوال شهر رمضان.
وفي واقعةٍ شهدها لييل في إحدى القرى الواقعة على ضفاف النهر، كان الناس يتجمّعون عند غروب شمس التاسع والعشرين من رمضان، ليراقبوا ظهور هلال العيد، ولم يكن في استطاعتهم كتمان لهفتهم، متطلّعين إلى السماء، وهم يجوبون المكان مجموعاتٍ، وبعضهم يصعد الى السطوح، ليكون بمقدوره الرؤية على نحو أفضل. وتمرّ دقائق قبل أن يسود صمتٌ مُطبق، تتبعه صيحةٌ مفاجئة، مفادها بأن الهلال قد ظهر. في حينها، كان الجمع يتفرّق على عجل، وعلى وجه كل واحدٍ ملامح ارتياح مكبوت. وتدافع الشيوخ المعمّرون والشباب والصبيان بالمناكب، كلّ منهم يسعى إلى أن يصل إلى مكانٍ ما، وكان وجه السماء في تلك الليلة متلبّدا بغيوم كثيفة. ولاحظت علامات اللهفة والقلق على الوجوه، وهم يأملون أن ينقشع الغيم عن بقعةٍ ما من السماء، ليظهر الهلال فيها. وأخيرا ظهر الهلال خيطا رفيعا من الضوء، كان محجوبا تحت الغيوم، وهرول عديدون ممن اعتلوا سطوح المنازل، راجعين فيما تصاعدت صيحات "الحمد لله .. الله أكبر.." من كل جانب، مع قهقهات فرح ومسرّة. وشرع بعضهم في أداء الصلاة غير عابئين بالصخب المتصاعد من حولهم، وسارع آخرون إلى تبادل القبلات، مهنئين بعضهم بعضا بحلول العيد، ومن كان يحمل بندقيته أطلق الرصاص تعبيرا عن فرحته، من دون أن يفكّر بما يمكن أن يسبّبه ذلك من خطر على المحيطين به.
لا ينسى لييل أن يؤكّد في خاتمة الفصل الذي أفرده لرمضان في مذكّراته التي حملت عنوان "المخفي والمعلن في بلاد ما بين النهرين" أن تلك الساعات التي قضاها في مشاركة العراقيين احتفاءهم بشهر الصوم كانت بالنسبة له من أجمل الأوقات التي احتفظت بها ذاكرته.