رمضان السيسي: 35 يومًا .. 35 مسلسلًا

04 ابريل 2022
+ الخط -

هذا الذي يتسوّل باسم المكذوب عليهم، ويقف على أبواب العالم يطلب المعونات، مرددًا "حالنا صعب قوي" لم يجد صعوبة، ولم يستشعر خجلًا وهو يوجّه كل موارد الدولة للإنفاق على ما يحبّه من أكاذيب، جرت تعبئتها في 35 مسلسلًا دراميًا، للعرض في شهر رمضان الذي من الثابت أنه 30 يومًا أو ربما 29 يومًا.
في العام الماضي، وفي موسم الكذب الدرامي ذاته، كانت التقديرات تشير إلى أن أجر نجوم الصف الأول في المسلسلات التي تنتجها وتنفق عليها الشركة التابعة للمخابرات يتراوح بين 30 و50 مليون جنيه للنجم الواحد، هذا يعني، في أقلّ التقديرات، أن المسلسل الواحد يكلف نحو مائة مليون جنيه، على الأقل، بين أجور ممثلين وتكاليف إنتاج وتصوير وإخراج، وبقية عناصر العمل الفني.
من المهم قبل حساب فاتورة إنتاج الأكاذيب وتقديمها باعتبارها تاريخًا، أن نتذكّر أن هذا النوع من الدراما الفاسدة يأتيكم برعاية عبد الفتاح السيسي شخصيًا، فهو الذي يختار الموضوعات وفريق التمثيل، ويضع الخطوط الأساسية للسيناريو، بل ويتولّى الدعاية والترويج، هو بلسانه قال ذلك على الهواء مباشرة، عبر شاشة تلفزيون رجل السيراميك، لكي يزفّ إلى الأمة نبأ استعداده اللا محدود لدعم مسلسلات وأعمال درامية تدافع عن الدولة (النظام)، وتقول للمشاهد إن من يحكمه مجدّد ومصلح، مثله مثل الأنبياء والرسل.
"أنا بقول من دلوقتي أن دعمي لهذا الإبداع سيكون ضخم جداً، وأنا مجهز له كويس". هكذا قال، إذن، من المقطوع به كل ما يدبّ على الأرض، أو يطير في الهواء، أو يعوم في البحر، من خلال مسلسلات الدراما السيسية، هو بمعرفته واختياره شخصيًا، باعتباره المسؤول عن الخطاب الدرامي، كما هو مسؤول عن الخطاب الديني، بحيث ينحصر مفهوم الإبداع، عنده، في كتابة وتقديم أعمال فنية تبرز عظمة الحاكم، وتحارب كل من يعارضه أو ينتقده، وتقول للمتلقي إن هؤلاء هم أعداء الوطن. 
بالعودة إلى معركة الخمسة وثلاثين مسلسلًا دراميًا سيسيًا رمضانيًا هذا العام، فإنه بحساب كلفة المسلسل الواحد بمائة مليون جنيه، فإننا نكون بصدد ميزانية مرعبة في بلدٍ أصابوه بالعجز وراحوا يتسولون به وعليه .. اضرب 35 مسلسلًا في مائة مليون جنيه، تكون الحصيلة 3500 مليون جنيه، أي ثلاثة مليارات ونصف المليار جنيه، مخصّصة لإنتاج ما يطلبه الجنرال من أكاذيب وحكايات تبرز عظمته، وحنكته وطيبته وإنسانيته، وتأتي بأطول الممثلين وأعرضهم لكي يجسّدوا شخصيته، وما يفيض يوجّه لمكافأة شيوخ الأمر بمشاهدة مسلسل الاختيار، والنهي عن الاستماع إلى ردود أهل الشر، والفتوى بأن دقيقة الدراما السيسية أفضل من مائة خطبة جمعة، والذهاب بالبلد كله إلى حالة من التمثيل الرديء، تمثيل الكل على الكل.
في ضجيج الدراما، تختفي كوارث وجرائم ضد الإنسانية، تُرتكب بحق الذين تستبيحهم هذه "الدراما الوطنية" فيُضرب عبد المنعم أبو الفتوح في سجنه، حتى يُصاب بنوبة قلبية حادّة، غير مسموح بأن يزوره أحدٌ من أهله، ويتواصل التنكيل داخل السجون بأولئك الذين يستمتع الجنرال بمشاهدة مسلسلاته التي تتحدّث عنهم، بوصفهم أعداء الوطن، متكئًا على أريكته مستدفئًا بمليارات الدولارات التي تتساقط عليه، خمسات خمسات، يغمره بها الرعاة والمانحون، الجدد والقدامى، فيطمئن على أنه لديه ما يكفي لإنتاج أكاذيب درامية أخرى في الموسم المقبل .. ثم يحدّث الفقراء عن حتمية رفع سعر الرغيف وترشيد الاستهلاك من الخبز، ومن مياه الشرب، لأن البلد يخوض معركة مصير، يحتاج معها إلى تضحياتٍ من الشعب، لكي تكتمل مسيرة البناء الدرامي، لتحويل الواقع المعاش إلى تاريخ أسطوري للبطل الأسطوري.
المثير في مسألة دراما السيسي أن المرسل يعرف أنه يكذب، المتلقي أيضًا يعرف أنه مكذوبٌ عليه، كما أن المرسل يعرف أن المتلقي يعرف أنه يكذب عليه. وعلى الرغم من ذلك، تستمرّ اللعبة، بمنتهى الجدّية والصرامة، لتبقى أسئلة محيرة حقًا عن هذا الذي يجوّع الناس، وينفق بكل هذا البذخ لإنتاج أكاذيبه الشخصية وتقديمها في عبواتٍ درامية باهظة الكلفة، ويستبيح خصومه الذين سجنهم كي لا تكون هناك رواية أخرى تردّ على ما يروّجه ..
هذا الذي قتل رواية الطرف الآخر في الموضوع، بل قتل ذلك الطرف الآخر شخصيًا، وأخفاه في عتمة السجون وأقبية الإخفاء القسري، ثم صادر أمواله وممتلكاته، لينفقها على جيوش صناعة الكذب وتزوير التاريخ .. هذا الذي يقتطع من لحم الناس الحي، لكي يصنع موائد الدراما الفاسدة، ويضع يديه في جيوبهم لتوفير العلف اللازم لقطيع الكذبة والملفقين .. هل يشعر برجولته وهو يستلقي على أريكة يضحك مع زوجته وأبنائه، وهو يشاهد تاريخه المزوّر وروايته المزيفة، الوحيدة، منتشيًا بانتصار ملوث على خصومه؟ بل هل يشعر هذا الذي فعل ذلك كله بأنه رجل أصلًا؟
هل رجلٌ من يقتل الحقيقة التي رآها الناس بأعينهم، وعرفوها تمام المعرفة، ثم يُقصي كل الذين يملكونها، ويتكلم وحده، بل يكذب وحده، ثم يبطش بكل من يرفض أكاذيبه ويسخر منها؟

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة