الحضيض مصلحةً مصريةً
لم تجدْ مصر وزيراً للتربية والتعليم إلّا ذلك الشخص المشكوك في تلقيه قدراً محترماً من التعليم، والمطعون في صحةِ الشهاداتِ العلمية التي اكتسبها من جامعاتٍ مجهولةٍ في الخارج.
كما لم تجدْ مصر من يمثلها في بطولةٍ عالميةٍ لرياضةِ الدرّاجات سوى فتاة موقوفة عن اللعب محليّاً بعد جريمةِ الاعتداء على متسابقةٍ منافسةٍ لها في بطولةِ مصر للدرّاجات، لكي يخلو لها الطريق وتفوز بلقبٍ لا تستحقّه، ما أدّى إلى إصابةِ اللاعبةِ الأخرى ودخولها في غيبوبةٍ ونهايةِ حياتها الرياضية.
تتشابه الواقعتان إلى درجةِ التطابق، فالوزير هو فتاة الدرّاجات، والفتاة هي الوزير، كلاهما دهسَ قائمةً طويلةً من الأفضل منه والأكثر جدارة بالموقع الذي وصل إليه، وقبل ذلك داسَ على هشيم قيمٍ راسخةٍ وحطام اعتباراتٍ مُتعارف عليها ومستقرّة في الاختيار والتعيين، وكلاهما وجد من يبرّر لهما ويدافع عنهما ويستبسل في الذودِ عن فسادٍ فادحٍ وفاضح لا يحتاجُ كثيراً من الجهد لإثباته.
مصر التي يتغنّى رعاة الفساد القيمي بأنّها منارة العالم وصاحبة الفضل في نشرِ التعليم في المناطق التي كانت محرومة منه في محيطها العربي، صار لها رئيس وزراء يدافع عن قرارٍ فاسدٍ بتعيين شخصٍ تحومُ الشبهات حول حصوله على درجةٍ علميةٍ مزوّرةٍ من جامعةٍ لا وجود لها في الولايات المتحدة بالقول إنّه ما دامت الشهادة مختومة وموثّقة من جهةٍ ما، لم يسمّها رئيس الحكومة، وليست المجلس الأعلى للجامعات في مصر، باعتباره الجهة الرسمية الوحيدة المنوط بها اعتماد صحة الشهادات العلمية الأجنبية وسلامتها، فلا مشكلة في تعيين صاحبها وزيراً، لأنّ المعيار ليس الشهادات، وإنّما القدرة على الإلمام بالملفّ المسؤول عنه بمشكلاته وتحدّياته، كما قال رئيس الوزراء في مؤتمر مُذاعٍ على الهواء مباشرة.
المنطق هنا أنّ ليس مهمّاً أنّ الشخص فاسدٌ أو مزوّر، وإنّما المهم أن يكون المسؤول الذي اختاره مقتنعاً بقدراته ومعجباً به، ومؤمناً بأنّ تعيينه يصبّ في مصلحة الوطن، حتى لو تعلّق الأمر بمجال يعدّ من أولويات الأمن القومي الحقيقي، مثل التربية والتعليم. ولو مددْنا الخطّ على استقامته، ومضينا خلف هذا المنطق الفاسد العجيب، فلماذا لا يكون صبري نخنوخ وزيراً للأمن الداخلي، على اعتبار أنّه يمتلك القدرة العضلية وإمكانات التسليح والدراية الكاملة بعالم العصاباتِ والفتوات، على نحو يتفوّق به على أيّ رجل شرطة تعلم وتدرّب وتخرّج في كلية الشرطة، ثم اشتغل وترقّى وظيفيّاً؟
ولماذا لا يكون إبراهيم العرجاني زعيم مليشيا القبائل وصاحب النفوذ والتسليح العالي وشريك النظام والحكومة والقوات المسلحة، عسكرياً واقتصادياً، وزيراً للحربية، إذا كان الإعلام الرسمي يستضيفه ويتحدّث عنه باعتباره بطلاً قوميّاً ومحارباً جسوراً وقائداً ميدانيّاً في الحرب على الإرهاب، وصاحب القبضة القويّة على المعابر بين مصر وفلسطين؟
بحسب هذا المنطق المنحطّ، اقتضت مصلحة الوطن العليا الإفراج عن صبري نخنوخ بالعفو الرئاسي بعد قضاء جزءٍ يسير من عقوبة السجن المؤبّد، وتعيينه فيما بعد رئيساً لشركة فالكون الأمنية، كبرى الشركات المصرية العاملة في هذا المجال، وها هي مصلحة الوطن العليا تحضر مرّة أخرى في قرارِ تعيين وزيرٍ للتعليم بشهادة مزوّرة من جامعة وهمية، وفي قرار اختيار فتاة مُدانة وموقوفة عن اللعب رسمياً بعد جريمةِ اعتداء على زميلة لها حاولت التنافس بشرف، لكي تمثّل مصر في سباق دولي. وبتفعيل هذا المعيار، ما يطلق عليه الوطن لن يمرّ وقت طويل حتى يتحلّل ويرتدّ إلى حالةِ مجتمعاتِ ما قبل اختراع العقد الاجتماعي والقوانين المنظّمة لحياة الفرد والمجموع فيه، لا لشيء إلا لأنّ المُمسك بمقاليد السلطة وصاحب القرار يرى نفسه الأكثر علماً وخبرة وقوّة، ومن ثم لا ينبغي أن يُسأل عمّا يفعل.
المصلحة العليا لا تتحقّق بالانحدار إلى الحضيض بكلّ هذا الإصرار والتحدّي، وكأنّ الهبوط صار خياراً استراتيجيّاً ومشروعاً قوميّاً.