رسالة أخيرة إلى رئيس الوزراء العراقي

04 أكتوبر 2023

محمد شيّاع السوداني يلقي كلمة في مؤتمر "طريق التنمية" في بغداد (27/5/2023/الأناضول)

+ الخط -

أعرف أنك أول رئيس حكومة بعد الغزو الأميركي للعراق لم يغادر بلده، وقد عشتَ سنواته الحلوة والمرّة، وخدمت في أكثر من موقع رسمي، وهي ميزة تجعلك أكثر إدراكا لأوضاع العراق وأحوال العراقيين من أيٍّ من الذين تسنّموا منصب رئاسة الحكومة قبلك، وكانوا قد ارتضوا لأنفسهم الإقامة خارج البلاد، وعاشوا أيامهم يدورون في الأزقّة الخلفية لدول الغرب والجوار، وقد وجدت أميركا فيهم ضالّتها فنقلتهم على ظهور دبّاباتها، وفرضتهم حكّاما علينا، ثم دخلت إيران، ووضعتهم في جيبها، وأحكمت، من خلالهم، هيمنتها على السلطة والمال والقرار، وكانت حصيلة ذلك عشرين عاماً من معاناتنا، وإذلالنا، والضحك على ذقوننا. وعبر ذلك، تم اعتماد مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية في توزيع السلطة والموارد، واستُبيح المال العام، وسادت سلطة المليشيات والجريمة المنظمّة، وزادت أعداد من يعيشون تحت خط الفقر على نحو مريع، وتدهور مستوى التعليم، وانهار النظام الصحّي. والأهم من هذا كله سقطت منظومة القيم الأخلاقية إلى درجة أنه لم يعد هناك رادع اجتماعي يدفع إلى سلوك الطريق السليم.

ليس هذا هو بيت القصيد، ولكنني كنتُ، وغيري من العراقيين، نحتفظ في أعماقنا ببعض حسن الظن بما يجري أمام أعيننا، وإن كان حسن الظن في أيامنا هذه أقرب إلى المعجزة، والظنّ بالشر أسلم، وقد جعلنا الظن الحسن نتطلع، وبقدرٍ محسوبٍ من التفاؤل، إليك، عسى أن تمكّنك الأقدار من سلوك طريق التغيير، وأن تكون لديك القدرة على التصدّي للمشكلات الكبيرة التي ينوء تحت ثقلها شعبُنا بمختلف "مكوّناته"، وهي الكلمة التي اخترعها المهيمنون علينا لزرع الفرقة بين أبناء الشعب الواحد الموحّد الذي لم يعرف طوال عمره التاريخي ما ينال من وحدته، وقد صبر هذا الشعب على كل هذه المكائد، واحتسب الأمر مدّخراً الأجر عند الله، وهو ما دفعنا إلى أن نغضّ الطرف قليلاً عن طبيعة التشكيلة الوزارية التي ولدت معك، والتي لم تختلف لا في الجوهر ولا في المظهر عن سابقاتها.

بقية الظن الحسن، يا دولة الرئيس، تدفعني إلى الكتابة إليك عسى ولعلّ، خصوصاً وقد عبرت لنا عند تسلمك المسؤولية التنفيذية الأولى في الدولة عن "رغبة جادّة في فتح حوار حقيقي وهادف لبدء صفحة جديدة في العمل لخدمة أبناء شعبنا، وتخفيف معاناته بتعزيز الوحدة الوطنية، ونبذ الفرقة، وشطب خطاب الكراهية"، ووعدتنا بإيجاد "حلولٍ للمشكلات والأزمات المتراكمة، وفي مقدّمتها نقص الخدمات، والفقر، والتضخّم، والبطالة"، و"الشروع بحملة وطنية شاملة لمكافحة الفساد"، و"استرداد هيبة الدولة وفرض احترام القانون". ولم تنس أن تعبر لنا عن اعتقادك بأن "الدولة هي صاحبة الحق الشرعي في نشر الأمن وبسط القانون، والذود عن السيادة الوطنية عبر مؤسّساتها العسكرية والأمنية الرسمية". ورغم أننا، ومن خلال تجاربنا المريرة مع من سبقك، ومع شكوكنا في قدرتك على مواجهة سيوف الزعماء المليشياويين وسدنة الدولة العميقة وحيتان المال الكبار، إلا أن بقية الظن الحسن ظلت تحمل لنا بعض الأمل، أو قل جعلتنا "متشائلين"، وأنت تقدّم رِجلاً، وتؤخّر أخرى.

لم نلمس خطوات جادّة وجريئة باتجاه التغيير المطلوب، بل مرّ العام الأول وأنت تدور في لعبة الصراعات والمناكفات التي أتقنها من جاء قبلك

ها قد انتهى العام الأول على وجودك في السلطة، وشرعت في دخول عام ثان. لكني، وأقولها، بصراحة، واحد من المشفقين عليك من أن تفشل في تحقيق وعودك التي أطلقتها في البدء، إننا لم نلمس خطوات جادّة وجريئة باتجاه التغيير المطلوب، بل مرّ العام الأول وأنت تدور في لعبة الصراعات والمناكفات التي أتقنها من جاء قبلك، وظلّ الحال كما كان، وربما بدرجة سوء أكبر، وأمامنا حقائق ووقائع كثيرة حادّة تجعلنا نفقد بقية الظن الحسن شيئاً فشيئاً، وبدأ صبرنا ينفد، إلى درجة أننا، يا دولة الرئيس، لم نعد في وارد انتظار "غودو" الذي يبدو أنه لن يجيء في الحال الحاضر على الأقل!.

وإلا ما الذي يعنيه استمرار السير في الطريق المغلق ذاته الذي لم يأخذنا على مدى أزيد من 20 عاماً سوى إلى مزيد من المآسي والنكبات والحرائق التي حوّلت البلاد إلى "طنجرة ضغط يمكن أن تنفجر في أية لحظة"، على حد وصف باحثة فرنسية أجرت بحثاً استقصائياً عن حالنا التي لم تعد تسرّ صديقاً، ولا حتى عدوّاً.

هذه رسالة أخيرة لك، يا دولة الرئيس، وآخر دعوانا، أن حسبنا الله ونعم الوكيل.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"