رسائل المقاومة الفلسطينية وتحدّيات وفرص أمام مصر

رسائل المقاومة الفلسطينية وتحدّيات وفرص أمام مصر

28 أكتوبر 2023

حشد من المصريين داعم غزّة وفلسطين في الجيزة (20/10/2023/الأناضول)

+ الخط -

حمل المقاومون الفلسطينيون، في كفاحهم البطولي، خلال عملية طوفان الأقصى، عدة رسائل، أهمها أن الشعب الفلسطيني انتظر 30 عاما إقامة دولة على ثلث أراضيه التاريخية، بموجب اتفاق أوسلو، لكن لا تسوية تمّت ولا تحسّن جرى، بل تعمّقت الأزمة، وضمن جوانبها حصارٌ ممتدّ منذ 2007 أعاق كل سبل العيش، من بنى اقتصادية، مصانع كانت أو أنشطة زراعة وصيد وتجارة، وانتهاك الحقّ في التنقل، ومعه تحوّل قطاع غزّة سجنا، وتعرّض لخمس حروب، خلّفت قتلي ومصابين، وهدم متكرّر للبني التحتية، وما بينها من فتراتٍ من دون حرب، ولم تتوقف في الأراضي الفلسطينية الاعتداءات والاعتقالات، إلى جانب استيطان يتوسّع، وتمييز عنصري.

في هذا التوقيت، ومع انجرارٍ عربيٍّ إلى التطبيع، تعلن المقاومة الفلسطينية أن لا مفرّ من إحداث تغيّرات في أدوات الصراع لفتح مساراتٍ للحياة، إيجاد وضعٍ مستجدٍّ مبنيٍّ على القوة، والحقّ في الدفاع عن النفس. ورغم صعوبة الخيار العسكري بين مقاومة محدودة العتاد ودولة تمثل معسكرا حربيا مدعوما أوروبيا وأميركيا، لم يكن هناك سبل أخرى لتفكيك الأزمة، إلا بالمقاومة، رغم التكاليف العالية، من تدمير شامل، وضحايا، أثبتت المقاومة قدرتها على التأثير، حاملةً رسائل إلى أطراف عدة، واختارت، في طوفانها الاستثنائي، وفي الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، إعادة تشكيل المشهد، بقواعد الاشتباك، بل تتحدّى ظروفا دولية ووضعا عربيا، لم يزد دولة الاحتلال إلا عنصرية، وأعطت درسا لدولٍ تُنفق، من فوائضها المالية وأخرى لا فوائض لديها، مخصّصات ضخمةً في التسليح، لكن من دون أثر، ولا تلوح حتى باستخدام ما لديها. بينما وظفت المقاومة أبسط الإمكانات، سلاحا محلي الصنع، وأفكارا مبتكرة وبسالة غير محدودة، في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتواصل، بما في الحرب الجارية، والتي تجسّد الوحشية والجبن معا، بما تتضمّنه من انتقام بربري، حيث طاولت عمليات القصف المؤسّسات الصحية، ودور العبادة، المساجد والكنائس، والمدارس، وكل مؤسّسة تقدّم خدّماتها للسكان، بلا أدنى اعتبار لقواعد الحرب.

تقول منظمات أممية إن غزّة تمرّ بكارثة إنسانية غير مسبوقة، ووضعها مروّع، ليس نتيجة القصف وحسب، ولكن أيضا، قطع المياه والكهرباء ونفاد الأغذية، عقاب إجرامي، يشمل ثلاثية الحصار والتجويع والقتل الجماعي. وقد تجاوز هذا الوضع المأساوي الشامل، والعقاب الجماعي، الحروب السابقة عليه، ويعد حكمٍا بالإعدام على سكان القطاع، بما يشكّل أمرا مروّعا لكل من يتابعه، فما بالنا بمن يحياها.

لا يمكن وقف مخطّطات التهجير  في غزة، المرتبط حاليا، بالغزو البرّي، وإنهاء وجود المقاومة وإعادة ترتيب الوضع في غزّة، إلا بوقف العدوان والتصدّي للغطرسة الإسرائيلية

كان الأشد قسوة وتوحشا، استهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف وقتل من فيها من جرحى، كتبت لهم النجاة من القذائف فقُتلوا بقصفٍ مخصّص لهم. كان القطاع سجنا أصبح محرقة، الجرائم مستمرّة، متجاوزة قواعد الحرب ومدعومة بغطاء أميركي وأوروبي، يكمله عجز عربي رغم الكارثة، اختبار فشلت فيه الإنسانية كما تقول هيئات للأمم المتحدة، ويترتّب عليه نزوح داخلي لأكثر من مليون من سكان غزّة. هنا ممارسة للصهيونية تشبه النازية، لكن الصهيونية الموصوفة من الأمم المتحدة (الدورة الثلاثين عام 1975) كأحد أشكال التمييز العنصري تتفوّق على النازية في بشاعتها، ومشمولة بتأييد أوروبي وأميركي، وبعد ما تجاوز العدوان أسبوعين، كانت غزّة ما زالت محاصرة بشكل كامل بلا زجاجة ماء.

ولم تسمع الدول العربية، ودول الجوار التي يمتدّ الحريق إليها أصوات الفلسطينيين، بما يجعلها تتّخذ خطواتٍ جادّة، وممكنة أيضا، تدافع فيها عن وجودها "كدول" قبل أن تنحاز، باسم العروبة والتاريخ والجغرافيا، فكانت الخطابات الدبلوماسية، بجانب أنها تقليدية حذرة، لا تتّسق مع حجم المأساة. يساوي بعضهم بين دولة الاحتلال وشعبٍ محتل، وهناك من صفّ المطبّعين الجدد من يدين المقاومة ويحمّلها تداعيات الحرب. وكان عدوان إسرائيل ومخطّطات هيمنتها على المنطقة مربوطا بالمقاومة، وليس جزءا أصيلا في تأسيسها، ويهدف إلى إخضاع مجمل المنطقة، هدفا لم يتغيّر ودالة عليهما سياسات دولة الاحتلال.

مصريا، ليس هناك إمكانية لفكّ الارتباط مع قضية الشعب الفلسطيني، بحكم التاريخ والجغرافيا، والطبيعة الاستعمارية لدولة الاحتلال، حتى مع تبدّل النظم وتوقيع مصر اتفاقية سلام، فهناك يقين وحقائق لم تتغيّر، والواقع يؤكد عليها، أبرزها أن دور إسرائيل، بوصفها قوة استعمارية، الهيمنة على مقدّرات المنطقة، وإن لم يكن شعار "من النيل إلى الفرات" مطبقا جغرافيا فهو سعي صهيوني قائم بصور أخرى، ومجمل الوضع يحمل تحدّياتٍ للمنطقة ومصر خصوصا.

حمل رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في الجلسة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، خريطة الوطن العربي، واحتفى بعلاقة الاحتلال بدول المنطقة باستثناء 2% هم الفلسطينيون، نافيا وجودهم، بجانب ترحيب عربي بإسرائيل. ولكن الرد شعبيا جاء بعد العدوان، والذي يمثل تحدّيا شاملا لمنطقة الشرق الأوسط مع تفاوت تبعاته، حسب سيناريو الوضع الميداني وتطوراته، والتفاعل الدولي والإقليمي مع الحرب الجارية، والتي تشكّل تحدّيا لمصر على أصعدة عدّة، منها أمن الحدود والموانئ، ومحاولتها وقف العدوان عبر هدنة، توقّف المواجهة العسكرية وتسمح بالتفاوض، وإيجاد مخرجٍ عبر تفاوضٍ يعالج جذور الصراع، كما تواجه مصر ضغوطا أميركية وإسرائيلية، تتعلّق بمخطّطات تهجير سكان غزّة، وهو التحدّي الثاني الذي لم تعلنه مصر وحسب بشكل واضح، ولكن المقاومة أيضا، والتي تشترك مع مصر في رفض هذه الجريمة التي يخطّط لها، ويجري الدفع بها عبر الحصار والتجويع والقتل، جزءا من تصفية القضية الفلسطينية، في مواجهة تمسّك بالأرض وصمود للدفاع عنها. لم يترك أهالي غزة أراضيهم رغم محاولاتٍ جرت قديما وحديثا، ورغم الظروف الصعبة التي يعيشها سكّان القطاع.

وعمليا، لا يمكن وقف مخطّطات التهجير المرتبط حاليا، بالغزو البرّي، وإنهاء وجود المقاومة وإعادة ترتيب الوضع في غزّة، إلا بوقف العدوان والتصدّي للغطرسة الإسرائيلية. وهنا من المهم تجاوز الخطابات الدبلوماسية التي تساوي بين دولة الاحتلال والفلسطينيين، بدعوى تبنّى خيار السلام، وأن يرتكز الخطاب على توصيف حقيقي للأزمة، بوصفها مواجهة بين المقاومة والمحتل، بجانب الاصطفاف مع الحقّ الفلسطيني، واجبا وطنيا وحائط صد لحماية الأمن القومي، بل وأمن المنطقة الذي يهدّده الاحتلال، سواء بالحرب أو بالهيمنة واستنزاف المقدّرات ونهبها، ضمن مخطّطات لشرق أوسط جديد أو مستجد.

وإذا كانت جهود الإغاثة الضرورية والعاجلة مهمة، وتعين الفلسطينيين على الصمود، فإن الدور السياسي في المحيط الإقليمي والمؤسّس على إعادة بلورة الخطاب والتوجهات، بمراعاة حسابات المصالح المصرية (وهي ليست متناقضة مع الحق الفلسطيني) يشكّل نقطة انطلاق للعب دور مختلف، مبنيٍّ على تعيين موقع القاهرة من الصراع الحالي، إضافة إلى إعادة النظر في تحالفاتها وعلاقاتها.

وبالإمكان لعب دور إقليمي يواجه ضغوطا أميركية وإسرائيلية، والتي وصلت إلى حدود منع دخول المساعدات إلى غزّة، وهو ما يعنى استمرار حالة التجويع والقتل، والعجز عن إنقاذ الضحايا سواء في مستشفيات غزّة أو مستشفيات مصرية (في العريش ومدن القناة) أعلنت جاهزيتها حسب اجتماع مجلس الأمن القومي المصري.

مصادر قوّة لم تجرّب لوقف العدوان الإسرائيلي، كما التحكّم بشكل مؤقت واضح الغرض، في إنتاج مصادر الطاقة وتوزيعها، وتعليق التمثيل الدبلوماسي

إقليميا بالإمكان أن تجري القاهرة حواراتٍ مع القوى التقليدية المؤثرة في الشرق الأوسط، وهي صاحبة المصلحة في إيجاد سلام حقيقي، طريقه الوحيد وقف العدوان ومواجهة توسّع الدور الإسرائيلي، وتمثل تغيرات المشهد الإقليمي، بما فيها عودة علاقات السعودية ومصر مع إيران وتركيا فرصةً لإعادة التشاور بما يُحدث حالة توازن.

وكان ممكنا أن يكون مؤتمر السلام فرصة أكبر، لو سبقه حوارٌ مع القوى الإقليمية المناوئة لإسرائيل، أو غير المنحازة إليها على الأقل، لكن المؤتمر الذي هدف إلى مشهد إجماع من أجل إنهاء الحرب، لم يكن هدفه قابلا للتحقق عمليا، بسبب انحياز أغلب دول الاتحاد الأوروبي لإسرائيل، واتخاذ بعضها المؤتمر منصّة للهجوم على الفلسطينيين وإدانتهم، هذا بجانب تحدّي تباين المواقف العربية، بل وتعارضها أحيانا، ما جعل المؤتمر بلا مخرجات، وهذا محصلة طبيعية، ناتجة من غياب تصوّر حول بناء اصطفاف أولي بين مجموعةٍ يجمعها حدٌّ أدنى من الاتفاق والمصالح، ثم الانطلاق بهذه الكتلة إلى مساحة أكبر من العمل والتشاور الدولي، تقضى بفرض أجندةٍ جديدةٍ للتفاوض، بجانب تحدّي العمل على المستويين، الدولي والإقليمي، ظهرت القاهرة في حالة من التحوّط، واتباع ما يسمّى ضبط النفس، جعل إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة في حالة مواجهة مع مصر، عبر الضغوط والاستفزازات المتواصلة، منها استهداف معبر رفح، ثم استهداف دبابة إسرائيلية برج مراقبة على الحدود المصرية، مساء الأحد، اعتذرت إسرائيل عن الهجوم، واعتبرته خطا سيجرى التحقيق في ملابساته، لكن ذلك لا ينفصل عن ضغوطٍ تهدف إلى إبعاد مصر عن الصراع، وإبقاء الحصار، ومنع عبور المساعدات.

بناء اصطفاف ضد الحرب العدوانية التي تمارسها إسرائيل ممكن، حيث لم تستخدم عربيا خطواتٌ على الصعيد الدبلوماسي، بما في ذلك مخاطبة كل دوائر العلاقات الأفريقية والعربية والإسلامية، بجانب دول أميركا اللاتينية، والتحشيد، هذا بجانب القوى الإقليمية في الشرق الأوسط ذات المصلحة في وقف العدوان.

من المهم تجاوز الخطابات الدبلوماسية التي تساوي بين دولة الاحتلال والفلسطينيين، بدعوى تبنّي خيار السلام

لا يعنى التصوّر السابق تجاهل التحدّيات القائمة، ومنها طبيعة علاقة مصر بالولايات المتحدة وإسرائيل، وإدراك الظروف الاقتصادية الضاغطة، وطبيعة النظام وحدوده، إلا أن ذلك كله لا يمنع المناورة، وأن تلعب مصر دورا في منطقة الشرق الأوسط بناءً على مصالحها، وأن تستثمر المستجدّات الإقليمية، خصوصا أن الحرب ستطول. وقد تحمل بعض السيناريوهات تغيرات في صراعات الشرق الأوسط، خصوصا إذا طالت المواجهات، مع استمرار الحصار وسياسة الأرض المحروقة، ومخطّطات التهجير تمهيدا للهجوم البرّي. وهذه الخطوة تتحسب لها إسرائيل، ولن تكون سهلة، حتى أن مراكز أبحاث أميركية تطالب بالحدّ من النزوع الانتقامي، وتطرح أسئلةً بشأن أهداف الحرب، ومصير قطاع غزة، ومدى قدرة إسرائيل على إيجاد استقرارٍ بعد الغزو، إذا ما اختارت (واستطاعت) اسرائيل فرض واقع جديد سياسيا وجغرافيا، بما في ذلك سيناريوهات حكم القطاع عبر الوكالة أو بطرق أخرى، تحت مظلة دولية، أو تحالف أميركي إسرائيلي يسعى إلى إيجاد اصطفاف دولي ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة.

عربيا، وأمام تصوّرات مستقبلية كلها خطرة، بما فيها استمرار الحرب، هناك مصادر قوّة لم تجرّب لوقف العدوان، كما التحكّم بشكل مؤقت واضح الغرض، في إنتاج مصادر الطاقة وتوزيعها، وتعليق التمثيل الدبلوماسي أو تخفيفه، وتعطيل برتوكولات التعاون والمشروعات المشتركة مع الاحتلال، غير إمكانات الحشد مع المحيط الأفريقي ودول أميركا اللاتينية.

وأخيرا، وجّهت المقاومة رسائلها مع طوفان القدس في الذكرى الخمسين لحرب 1973، وكان الهجوم المباغت في 7 أكتوبر محل احتفاء عربي ومصري، بوصفه "أكتوبر ثانيا"، كسر أوهاما عن قدرات إسرائيل العسكرية والاستخباراتية مرتكزين على غطرستها. ولم يغب التوقيت بوصفه رسالةً مهمة، عن كتابات وتحليلات عدّة، بما فيها كتابات إسرائيلية، واستمرّ خطاب المقاومة يذكّر بجرائم للاحتلال مشابهة لما يجري في غزّة (أقل في حجمها وتكراراتها في الحقيقة) طاولت أطفالا مصريين، كما استهداف مدرسة بحر البقر في الشرقية، وغيرها من جرائم يكرّرها الاحتلال، مستهدفا المدارس ودور العبادة والمستشفيات. وليست هذه الرسائل مجرّد تحفيز للأطراف العربية، ولكنها تشير، بشكل أساسي، إلى حقائق الصراع وموقع إسرائيل، وأدوار ممكنة لمصر والدول العربية، رغم التحدّيات.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".