رسائل "كوفيد 19" .. ما أردات الطبيعة قوله للبشرية

12 أكتوبر 2020
+ الخط -

أجبر فيروس كوفيد 19 البشرية على اختبار مرحلة فريدة غاية في الغرابة والصعوبة: عدّاد لا يتوقف عن إحصاء الإصابات والوفيات المتصاعدة، تعطيل للحياة العامة إلى درجة التباطؤ المفضي شيئا فشيئا إلى توقفها تماما، تداعيات اقتصادية وخيمة بدأت بفرض ما يشبه "اقتصاد الحرب"، قبل أن يأتي زمنٌ قادمٌ لا محالة لإحصاء الخسائر الفادحة واتخاذ القرارات شديدة الإيلام، حتى لتبدو الأزمات الإقتصادية العادية تحت وطأتها نزهة ثقيلة الظل ليس أكثر. والأهم بعد ذلك كله، عدوى مرعبة قزّمت في طريقها أقوى الحكومات وأعتى الجيوش والاقتصادات، كما ساوت بين ضحاياها، فجمعت بين عامة الناس والرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء والشخصيات العامة من سياسية وفنية ورياضية وفكرية.. وغيرها.
بدا العالم أقرب إلى التخبط في التعاطي مع فيروسٍ أتاها من حيث لا تحتسب، إذ كيف لبلادٍ في قوة الصين وإيطاليا وكوريا الجنوبية أن تترنّح تحت ضربات كورونا، وتلقى نفسها في حيرةٍ، وهي لا تجد حصنا مانعا يقي شعوبها هذا الغازي الذي سقطت بين يديه المدن وأحياؤها الواحدة تلو الأخرى؟ سؤال الحاضر الصعب هذا يستدعي، في نظر كثيرين، حكما نظرة إلى الوراء.. ليس بعيدا إلى تلك الحقب "السوداء" التي شهدت في العصور القديمة والوسطى انتشار أوبئة أكلت الأخضر واليابس، مستفيدة من قلة ذات اليد البشرية علما وإمكانيات وتواصلا.. تلك أيام وأمة خلت. ولكن الذاكرة البشرية تفاجئ كثيرين بما نسته أو تناسته وسط شغفها باستعادة ذاكرة الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، فقد انشغل البشر كثيرا، كما في بواكير خلقهم، بتقصي وفهم كيف اقتتل أبناء آدم، وما الذي جعلهم يستبيحون دماء بعضهم بعضا، مارّين في ذلك كله بقصص الطغاة والمحرّرين والأبطال المعلومين والمجهولين، وما سبب الحروب وما انتهت إليه بين الدول من إعادة توزيع للعبة الأمم من غنائم ومناطق سيطرة ونفوذ مباشر وغير مباشر.. ونظام عالمي جديد. وبناء نظام عالمي جديد هو الفكرة التي هيمنت على البشرية التي حاولت أن تقرأ رسالة التاريخ من وراء حربين عالميتين، فكانت عصبة الأمم ومن بعدها منظمة الأمم المتحدة، وفي التجربتين اللتين قامت إحداهما على أنقاض الأخرى، مشيرة إلى ما تبدّل في ميزان القوى الدولية والإقليمية، سكن السؤال العقل البشري بقوة: كيف يمكن أن نمنع الحرب بما تتضمنه من شرور مطلقة ونرسي بدل ذلك سلاما مستداما؟
أرست البلدان الديمقراطية الرأسمالية مبدأها الشهير: الديمقراطيات تتنافس ولا تتحارب، لتدخل في صراعٍ مريرٍ وطويلٍ مع معسكر أحمر، كانت له إجابة مختلفة عن السؤال، تحيل مباشرة على قراءة أيديولوجية شاملة جمعت بين جنبيها قراءةً تبنّت حتميات جدلية طبيعية وتاريخية متداخلة. ونشأت وسط ذلك الصراع مقولاتٌ من قبيل صراعات المجالات الحيوية والأمن القومي والمعسكرات المعولمة، وهو الأمر الذي عبر عن نفسه في خطين متوازيين، سارا جنبا إلى جنب، حتى بعد أن سقط الإتحاد السوفييتي مدججا بكل سلاحه ليتبعه معسكره الشرقي، خطان هما سباق التسلح تقليديا ونوويا وصاروخيا، وكذلك اتفاقات الحد من التسلح سعيا إلى وقفه تماما.. وهو ما لم يتحقق، خصوصا بعد أن التقط الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، آخر أنفاس الحقبة السوفييتية، وينفخ فيها روحا روسية حديثة، عادت بالكرملين إلى الساحة الدولية قوة عالمية تخوض حرب نفوذ من جديد مع عدوها التقليدي الولايات المتحدة الأميركية، وبدرجة أقل الإتحاد الأوروبي.

الحمّى الإسبانية حصدت عام 1919 بين خمسين ومئة مليون ضحية، من دون أن تحتاج لتحريك جيوش

لم تترك الأحداث المتعاقبة والمنغمسة في صراعاتٍ تتوالد يوما بعد يوم، ساحة بعد ساحة، لم تترك للبشرية التي شغفت بذلك كله اهتماما وإنفاقا من فرصة لتلتفت إلى خطر آخر، إلى رسالةٍ تخللت الحربين العالميتين، ونافستهما في ضخامة الأعداد المروّعة للضحايا، فإذا كانت الحربان الكونيتان قد أودتا بحياة عشرات الملايين من الناس، مخلّفتين خرابا قل نظيره في التاريخ، فإن الحمّى الإسبانية فعلت ذلك وأكثر، إذ حصدت عام 1919 بين خمسين ومائة مليون ضحية، من دون أن تحتاج لتحريك جيوش، ولا لإعداد ما تيسر من قوة ومن رباط الخيل لإرهاب العدو، كل ما احتاجته فيروس سرعان ما تفشّى في أوصال العالم، المنهك بأمراضه ومجاعاته وحروبه ومحدودية التقدم العلمي فيه، على الرغم من القفزات النوعية التي حققها العقل البشري على ذلك الصعيد، فعاث في البشرية تقتيلا، ولم تملك له من ردّ يوقف مجزرة مذهلة، وضعت الوجود الإنساني على المحك، حتى آذنت بإفنائه، قبل حتى أن يفقه أسرار الغزو الفتّاك الذي تعرّض له.
استسلمت الأسرة البشرية لقدرها في تلك المحنة التي نافست محنة الحروب في قسوتها، وانتظرت إلى أن أكمل الوباء دورته، متجوّلا في أريحية بين البلدان والأعراق والجغرافيات بأنواعها، حتى جاء عليه حينٌ من الدهر، بدا فيها وحشا أتخمه العدد المهول للضحايا الذين التهم أرواحهم في طريقه، ومرّ مخلفا وراءه تعدادا جديدا للجنس البشري، وأسئلةً عن مدى حصانته في وجه مثل تلك الأوبئة التي لا ضمانة ألا تتكرّر. انكبّ العلم بفروعه على ذلك الوباء، وغيره من الأمراض الفتاكة، يسبر أغوارها ويفك طلاسم لقاحاتٍ يمكن أن تلزمها وحدها. ونجحت البشرية في ذلك نجاحاتٍ مشهودة، لكن الحقبة التي انتهت بمجيء جيل "السلام والحب" جعلت تلك المخاطر في مرتبة تالية عن الهموم العسكرية الأمنية السياسية. وإذا كان بنو آدم قد فكّروا فيما يستبقون به النزاعات والحروب الواسعة الإنتشار والتدمير، فقد بقيت الإنسانية بعيدةً عن أن تنتبه إلى أهمية أمنٍ من نوع آخر يمكن وصفه بالأمن الإنساني، فضلا عن أن تتدبّره على نحو استباقيٍّ يجعلها تفترض أن الحمّى الإسبانية قد تظهر مجدّدا تحت مسمّى آخر، ربما ليس بالخطورة نفسها وبأقل اتساعا في الانتشار.. وهو ما كان.
ظهرت في العقود الأخيرة تشكيلة من الأوبئة الفتّاكة، إنفلونزا الخنازير وفيروس إيبولا وما شابه.. لكنها على خطورتها، بل وبشاعتها، بقيت حبيسة الرقعة الجغرافية التي ظهرت فيها، لا تتجاوزها إلا إلى نشرات الأخبار التي ترمي بمستجدّاتها بين أخرى تزدحم بجديد السياسة والرياضة والإقتصاد والفن. ولا تحصد في ذلك سوى منسوبٍ منخفضٍ من الإنشغال والتعاطف، وانهماك نخبوي تحتكره منظمة الصحة العالمية بأذرعها المعروفة.

ظهرت في العقود الأخيرة تشكيلة من الأوبئة الفتّاكة، إنفلونزا الخنازير وفيروس إيبولا وما شابه.. لكنها على خطورتها، بل وبشاعتها، بقيت حبيسة رقعتها الجغرافية 

في أجيال "السلام والحب" تلك. كان المعاكس الموضوعي لحقبة الحرب هو التشديد على فكرة الحريات الأربع. حيث يطلق الإنسان العنان لفكره واستهلاكه ومبادرته، لا يرتضي لنفسه مرجعا غير نفسه، مجبرا العقائد والفلسفات على النزول إلى ساحة التاريخ، كي يختبرها بأدوات العلوم الصحيحة والإنسانية، متّخذا الحداثة أفقا له، معتبرا أن ما تقتضيه من افتقاد المعنى والتفكّك الاجتماعي ثمن ضروري للمستقبل. 
لسائل أن يسأل ما علاقة ذلك كله بوباء كورونا الذي تكافح الأسرة البشرية لإلحاق الهزيمة به؟ وهي في ذلك لا تحتاج مواعظ ولا فلسفات. تحتاج من يجيبها عن سؤال كيف، كيف النجاة؟ وليس لماذا؟ تسارع العلموية، من حيث هي ادّعاء (فلسفي في الجوهر وللمفارقة)، إلى امتلاك الجواب، مؤكّدة بضرس قاطع أن المشكلة، في المبدأ والمنتهى، مادية طبيعية، تطرح مشكلتها وتجد جوابها في ذلك المجال، وضمن تلك الدائرة حصرا، وهي مصادرة تعرّضت لنقد لاذع من مدارس فلسفية وفكرية بذلت جهدا في الردّ على ما يتجاوز العلموية إلى أساس فلسفي يختبئ وراءها.. يتمثل الوجود على نحو مادي محسوس. لا يرى في العلم سوى وسيلة لإدراكه وتغييره. وضمن هذا الفهم، لا معنى للحديث عن مفهوم غير مادّي للضرر، ولا معنى لأن نتحدّث عن رسالة ما للوجود ببعديه، الطبيعي والتاريخي.
إنه الفهم الذي لا يبدو بعيدا عن براغماتية وذرائعية الليبرالية الجديدة التي توصف بأنها طور أعلى وأكثر توحشا ومادية من الرأسمالية، في تعبيراتها النظرية والتطبيقية، تطرح فيه تمثلها للوجود وأسلوبها في التعامل معه. تعامل لا يتم من طرف واحد على الصعيدين، النظري والعملي، فالطبيعة كتاب له ما يستقلّ به من قوانين ومواضعات وحتميات، فمثلا تستطيع أن تنظر ما شاء لك فكرك إلى العلاقات المثلية، لكنها ليست أطروحة الطبيعة في التكاثر البشري، فالطبيعة، وقد بنت منظومتها على غلبة ساحقة من التناظر الجندري، تقول لنا رسالة معينة بخصوص الطبيعة الجوهرية للإجتماع البشري، وهو ما نتوصل إليه لا عبر الإستدلال الثقافي الذي يختلف من حقبة إلى أخرى، ومن ثقافةٍ إلى ثانية، وإنما على نحو الإستقراء المتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا، فقد كان الأمر كذلك ومنذ الأزل.

ما تعيشه البشرية اليوم من ضعف تجاه الوباء رسالة ما من الطبيعة تذكّر الإنسان بمحدوديته وبهشاشة وجوده

لا تكتفي الطبيعة بنصّها هذا الذي قرأته البشرية من خلال نصوصها وممارساتها بكل أنواعها، وإنما هي تتحاور، بنحو ما، مع كل ما يدخل في علاقةٍ معها، فأنت تُعلي من ثقافة الإستهلاك، وتذهب بعيدا في تسخير الطبيعة لمفاهيمك الإستهلاكية الربحية.. ليس توجها يبدأ بمنجزك العلمي، حتى يستقر أرباحا في جيوب الرأسماليين، وتنتهي القصة عند ذلك الحد، إنه الأثر الذي يحدثه البشر وفق تمثلهم ذاك للطبيعة والعلاقة معها والفعل فيها، فتقابله نتائج وتداعيات نعيشها اليوم في تغيير مناخي كبير، وفي إفسادٍ دؤوبٍ لأعطيات الطبيعة بأنواعها، وهو ما يمتد إلى كل نواحي حياتنا.. ما يبدأ قطعا عشوائيا لأشجار الغابات وإغراقا للبحار والأنهار والبحيرات بأنواع النفايات الكيماوية السامة ينتهي ردّا من الطبيعة، يطاول الصحة الفردية والعامة، وأثرا مدمّرا للنسيج الاجتماعي، وتحدّيا لقدرة الدول على إدارة الأزمة الناجمة عن اختياراتها الأولى، تلك التي تعود، في جوهرها، إلى فهم للطبيعة والتاريخ ولمنظومة القيم وللنسبي والمطلق، لما يجب أن يفعل وما لا يجب أن يفعل، للخير والشر.
هكذا بات عالمنا الحديث متخما بالبضائع، مختَزلا في الأرقام الشكلية، منهمكا في دوامة الاستهلاك، لا يرتوي، لأنه يشرب مياه البحر، ولا يشبع، لأن روحه الجوع والنهم.. عالم يفتقد المعنى أكثر فأكثر، عالم بدّد المساحات المشتركة للقيم البشرية التي ضيقها للمفارقة في الحرية، كما لو كانت فكرة الحرية فوق التاريخ، خاليةً، هي الأخرى، من النسبية، وكما لو أن كل من يذكّرها بنسبيتها وبشريتها إنما يهدف إلى مصادرتها، بينما ينسى من يؤله الحرية أنها قد تكون بنتا للقيد، فالذي يتقيّد بقواعد السلامة إنما يحفظ فرصته في حريةٍ أعمق من الاستسلام للمستوى السطحي والمخادع للحرية، بما له من بريق قوي جذّاب.. يحسبه الظمآن ماء، فإذا جاءه، لم يجده شيئا.

الجنس البشري يعيش حربا مصيرية، وهذه واحدةٌ من جولاتها

هل ظهور فيروس كورونا وتفشّيه مجرّد ظاهرة طبيعية تحتملها دورة الحياة، يجب فهمها ضمن شروطها الموضوعية من دون مزيد على ذلك، حتى لا نقع في فخ الغيبيات التي ليس في وسع الموتى مخاطبتنا بعد مفارقتهم الحياة، حتى يؤكّدوا لنا وجودها من عدمه؟ أم أن ما تعيشه البشرية اليوم من ضعف باد، بل وفادح، تجاه هذا الوباء، على الرغم من منجزاتها العلمية والمادّية، رسالة ما من الطبيعة، تذكّر الإنسان بمحدوديته وبهشاشة وجوده، ذلك الذي قد يهدّده فيروس غامض، أو نيزك تائه، يقرر ضمن رحلته التي نظنها عشوائية أن يضرب كوكبنا، فيجعل منا ومن قصتنا العجيبة هباء منثورا؟ الأكيد أن الجنس البشري يعيش حربا مصيرية، وهذه واحدةٌ من جولاتها. وكما في كل حربٍ، يصعب أن ينصرف أهلها إلى الحكمة والتعقل وسط ضجيجها وغبارها. سننتظر، على الأرجح، إلى أن تضع أوزارها، ولو إلى حين، ليجيء وقتها زمن استخلاص العبر، وخوض الجدالات من جديد، في مرحلة البحث عن تأسيس نظام عالمي جديد، عساه ينجح في حقن جرعةٍ كافيةٍ من الإنسانية في تدبيره شؤون الحرب والسلم، وتأمين استمرار النوع البشري، فليس خافيا على أحد أننا، من حيث نعي أو لا نعي، نمضي في اتجاه تدمير أنفسنا والطبيعة من حولنا، تحت أكثر الشعارات بريقا، كمن يرى عالما رائعا في قمة انتشائه بتناول أجود أنواع المخدّرات.
ربما تقول لنا هذه التجربة القاسية المخيفة: راجعوا أنفسكم قليلا، تواضعوا للطبيعة وللتاريخ، وتذكّروا أن بعض الضرر يُرى بالعين المجرّدة أو بالمجهر. وبعضه الآخر، وقد يكون أخطر، لا يُرى بالعين المجرّدة، بل وقد يتم تسويقه كجلد الحية، رائع الألوان والملمس، قاتل السمّ لا يرحم. .. راجعوا مفاهيم التقدّم والحداثة والتنوير، فربّ مجتمعات بدائية بقيت على حياة أسلافها، غاية في التناغم مع الطبيعة ومع أنفسها، مقابل مجتمعاتٍ قادها تطوّرها إلى خطط للتخريب والتدمير المخيف.

BA92A871-6561-4251-98A0-D593873AB4FA
BA92A871-6561-4251-98A0-D593873AB4FA
نبيل الريحاني

إعلامي تونسي، يعمل في قناة الجزيرة في الدوحة

نبيل الريحاني