اليسار التّونسي... أدوار الماضي وتحدّيات المستقبل

06 سبتمبر 2016

مناصرو حمة الهمامي يساندونه عند ترشحه للرئاسة (16 نوفمبر/2014/Getty)

+ الخط -
لم تكن الاحتفالية التي شهدتها العاصمة النرويجية أوسلو لتسليم "الرباعية" التونسية جائزة نوبل للسّلام لترضي اليسار التونسي، في أغلب تعبيراته، ذلك أن الوفاق الذي من أجله أسندت الجائزة لم يكن السقف الذي خاض ذلك اليسار من أجله معركته الشّرسة ضدّ "الترويكا"، التحالف الثلاثي الذي حكم تونس قبل 2014 بفعل نتائج انتخابات المجلس التأسيسي التي منحت فوزا معتبرا لحركة النهضة. ففي الوقت الذي يرى فيه المجتمع الدولي عامّة أن الوفاق جنّب تونس ما آلت إليه الأوضاع في بلاد أخرى من دول الربيع العربي، يراقب يساريون كثيرون في تونس على مضض، كيف أنقذ ذلك الوفاق "إخوان تونس" من دفع فاتورة ما اتهموهم به من فشل في إدارة الحكم، والتسبّب في أوضاعٍ، تضمّنت اغتيال شخصيّتين بارزتين من قيادات الجبهة الشعبية، شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
وتشير مقارباتٌ إلى أن جائزة نوبل للسّلام إنّما وجهت إلى طرفٍ وثيق الصّلة باليسار التونسي، وهو المجتمع المدني، فالاتحاد العام التونسي للشغل أمّ النقابات العمّالية في البلاد، والرّابطة التونسيّة لحقوق الإنسان قيدومة الرّوابط الحقوقيّة في العالم العربي، وعمادة المحامين ونقابة الأعراف، كلها على علاقة عريقة باليسار التونسي على نحوٍ أو آخر، وهي، في نظر المقاربات المشار إليها آنفا، لعبت دور المعادل الموضوعي لما عرف في مرحلةٍ أعقبت نجاح الثورة التونسيّة بتغوّل الإسلاميّين، ولما قيل عن سعيهم إلى أسلمة الدولة والمجتمع.
الناظر في ما أعقب نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، وما كشفته من نخبويّة اليسار التونسي ومحدوديّة تأثيره الجماهيري، يدرك أن هذه العائلة الفكريّة السياسية تأمّلت جيّداً الرّسائل التي أفصحت عنها صناديق الاقتراع، لتخرج بمسلمةٍ، مفادها الأهميّة الحيويّة الكامنة في العودة إلى المجتمع المدني، نظرا لعراقته وللأريحية التي يتيحها في التعاطي مع الشأن العام من خارج العناوين الحزبية المباشرة و"المحترقة" في تلك المرحلة على الأقلّ.

لم يكن اليسار التونسي غريباً بالمرّة عن الاتحاد العام التونسي للشغل، فالمركزية النقابية كانت تشتغل على الطبقة العمالية التي تمثل الوقود الأساسي لخطاب اليسار ومواقفه. وفي مقابل نوع من الإهمال النسبي من الإسلاميين للهياكل النقابية، كان اليسار، وفي ظل الحكومات التي تعاقبت على حكم تونس زمني الراحل الحبيب بورقيبة والمخلوع زين العابدين بن علي، يحرص على بقاء أذرعه النقابية موجودةً، وناشطة بمقادير تختلف بحسب الظروف القائمة والمهام المتاحة. ولعلّ من يعرف كواليس ساحة محمد علي، مقر المركزية النقابية، يعرف أنّ تلك المنظمة العريقة الشريكة في الكفاح الوطني، والتي مرت بعلاقات متقلبة مع دولة الاستقلال، عاشت أحداث ثورة يناير 2011، بطريقتها الخاصّة، ووفق الأوضاع القائمة في مطبخها الداخلي.

في أجواء الثورة
في أيام الثورة، كانت الهياكل الوسطى والدنيا وعامّة القاعديين هي من فتح أبواب المقرّات وضمّن سطور البيانات انحيازاً للمطالب المتصاعدة للشارع الغاضب، إلا أن القيادة المركزية واكبت ذلك كله بحذر، وسعت لإمساك العصا من وسطها، حتى إذا جاءت "الجمعة العظيمة" التي تضمنت دعوة إلى الإضراب العام، لقيت في نظر بعضهم استجابة متأخرة من قيادةٍ نأت بنفسها قبل ذلك عن التحركات، واكتفت بزياراتٍ محدودةٍ على استحياء لبعض بؤر التوتر.
كغيرها من المؤسسات القائمة والفاعلة، سلباً أو إيجاباً في تونس، هبّت رياح المطالبة بالمكاشفة والمساءلة داخل أروقة اتحاد الشغل، فكان الانصراف بدايةً إلى ترتيب "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة"، ثم غير بعيد عن ذلك عُقد مؤتمر "طبرقة" في واحدةٍ من بلدات الشمال الغربي لتونس، بعيدا عن صخب العاصمة التي كانت تمور بالاحتجاجات والتحرّكات التي لم ينس بعضها الدعوة إلى إقصاء "القيادة المتواطئة" لاتحاد الشغل.
كان اليسار ممثلاً في المؤتمر الذي لم ينفض إلا وقد غادرت وجوه يسارية، أبرزها عبيد البريكي الذي يشار إليه بوصفه مهندس "مؤتمر طبرقة" لتحل محله وجوه أخرى، من قبيل سامي الطاهري القيادي في "النقابة العامة للتعليم الثانوي".. وذلك كله من دون أن يفضي المؤتمر إلى محاسبة (أو معاقبة) أي من القيادات التي أغدقت على نظام بن علي مديحاً موثقاً بالصوت والصورة في مناسبات متكرّرة، وسط شبهات بالتورط في الفساد.
على مدى شهور، بل وسنوات متتالية، عكست منابر الإعلام في برامجها المختلفة حضوراً بارزاً لليسار، لا يناسب حجمه الانتخابي بحال، مارس من خلالها مهاراته القديمة الجديدة، والمتمثلة في خطاباتٍ عالية النبرة، وانتقادات قاسيةٍ ومطالباتٍ لا تتوقف عن متابعة عورات الحكم وعثراته، بدعوات للاستقالة بعد التسليم بالفشل الذريع.
استسلم اليسار التونسي في تلك المرحلة إلى "كلاسيكيات" معركته التاريخية مع الإسلاميين، وبدا في ذلك كله يستأنف نزالات المدارج الجامعية المفعمة بكثير من الإيديولوجيا والتشنج والحديّة.
كرّر الخطاب اليساري أسئلةً بعينها ليطرح مباشرةً بعد ذلك أجوبة محدّدة من قبيل: أين كنتم عند قيام الثورة؟ وما مدى صدقكم في الالتزام بالديمقراطية؟ وهل يمكن الركون إلى إشراككم في مسار بناء الدولة الديمقراطية الوليدة؟ وكانت الإجابات جاهزةً، تؤكد بشكل قاطع أن الإسلاميين ركبوا الثورة، وأنهم محترفو ازدواجية الخطاب من دون منازع، وأن المكاسب الحداثية لدولة الاستقلال قاب قوسين أو أدنى من الأسلمة.
بيد أن هذه الأسئلة حريّ بها، من وجهة نظر مقابلة، أن تطرح بالمستوى نفسه من القوة على اليسار، فأين كان هو الآخر عندما ذهب مسار الثورة نحو خط اللاعودة؟ وهل فعلاً يؤمن اليسار التونسي بالديمقراطية؟ وما مدى واقعية التعويل على صدقه في الالتزام بالتعددية والتداول السلمي للسلطة؟
وإذا كان اليسار التونسي يسارع بالإجابة أنّ مناضليه كانوا في خندق الثورة من مواقعها المختلفة، وأنه راجع "سلفيته الماركسية" باتجاه مصالحتها مع الديمقراطية، وأنه جاهز للحكم وقادر دون غيره على العبور بتونس من أوضاعها المتعثرة المتوترة نحو بر الأمان، فإن الذين يناصبونه النقد يرون أن الثورة في تونس لم تكن بحال بنتاً لفكرٍ بعينه، أو لطرف سياسي أو إيديولوجي أياً كان، ما جعل نظام بن علي يفشل في تصنيفها، وبالتالي، في التعاطي معها.
كما يرى هؤلاء المنتقدون لليسار التونسي أنه معني على قدم المساواة مع الإسلاميين في ما يهم هشاشة العلاقة بالديمقراطية، خطاباً وممارسة، ذلك أن النصوص المؤسسة للرؤى اليسارية والتجارب الملهمة لها لا علاقة لها من قريبٍ أو بعيدٍ بالديمقراطية التعدّدية، بل على العكس تحتفظ ذاكرة البشرية بذكرياتٍ مؤلمة، غاية في القسوة والدموية لما فعله حكام الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية ونظام الخمير الحمر، ومن قبلهم الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ، بالشعوب وحقوقها الأساسية في اختيار حكامها ونقدهم ومحاسبتهم واستبدالهم.
يسوق هؤلاء المنتقدون نصوصاً لا تنتهي من كتابات "السلف اليساري"، تتضمن عداءً واضحاً، بل فجاً وعنيفاً لفكرة الديمقراطية والتعدّدية والتداول السلمي على السلطة، والفصل بين السلطات والصحافة الحرة، ويرون على ضوئها أن اليسار التونسي، وإلى غاية مشارف الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2014، كان في أغلب تعبيراته يعيش معركة "مزايداتٍ" في خصوص الالتزام بحرفية النظرية ومقولاتها، وكانت تهمة "التحريفية" رائجةً بين الماركسيين اللينيين والماركسيين اللينيين الستالينيين والتروتسكيين والماويين وهلمّ جرا من الفصائل الماركسية التي يصل الخلاف بينها إلى حد استعمال العنف الرمزي والمادي.


خلافات متواصلة
خلافات قديمة جديدة مرّت بمنعطفاتٍ غاية في الأهمية، لا يمكن في غيابها أن نفهم كثيراً من تحولات الخطاب والممارسة داخل ما يمكننا تسميتها "العائلة اليسارية الواسعة"، وبالتالي، الخروج من أتون المناكفات بين هذه العائلة وخصمها التقليدي، ممثلا هو الآخر في "عائلة إسلامية واسعة". وفي العائلتين تعبيرات تتقارب إلى حدّ التماهي، وتتباعد إلى حد العداء في حركة للتحالفات والصراعات لا تكفّ عن التبدل في ضوء متغيرات الواقع.
يخبرنا التاريخ أن الشيوعيين مكوّن عريق من مكونات المشهد الفكري والسياسي في تونس، وضمن قراءةٍ أمميةٍ لم يحل الاستعمار الفرنسي المنتصب في شكل "حماية" في تونس دون تلاقي الشيوعيين التونسيين والفرنسيين في أطر ومواقف مشتركة، كانت مثار جدل، ثم مستنداً إلى موقف نقدي لاذع لمسافة للحزب الشيوعي التونسي من تعبيراتٍ أخرى، نحت بوضوح نحو الثورية والراديكالية، في نظرتها إلى دولة الاستقلال التي طبعها بورقيبة بطابع استبدادي أبويّ، صادَر فرص التعددية فيها، ليخوض، في ضوء ذلك، معركةً مع اليسار والقوميين لاحقاً.
شكلت منظمتا "آفاق" و"العامل التونسي" تجسيداً فعليا وعميقاً لبحث اليسار التونسي عن تعريف لنفسه ودوره، في علاقةٍ وثيقةٍ بالسعي إلى تقديم قراءة لواقع المجتمع والدولة في تونس، في ضوء الدليل النظري المتمثل في الماركسية، تلك النظرية التي كانت تعيش مخاضاً، طرفاه نزعتان، إحداهما "سلفية" تتحرّى ظواهر النصوص، وأخرى "تجديدية" ترى في الماركسية مناهج للبحث والنقد، وإمكانا للتقدم بالفهم البشري نحو آفاقٍ غير قابلة للتنميط المسبق، أكثر مما تقدم إجاباتٍ جاهزةً ومعلّبة ومسقطة.
ومع مجيء فترة الانفتاح السياسي المحدود الذي انتهجه رئيس الوزراء الراحل محمد المزالي، في بداية ثمانينات القرن العشرين، أمعن اليسار، خصوصاً داخل أسوار الجامعة التونسية، في جدال نظري ومناكفات عملية حول قراءة واقع المجتمع التونسي، وكيفية التعامل مع معطياته السياسية والاجتماعية، لنجد أنفسنا أمام أطروحتين كبيرتين، مثلت إحداهما "العائلة الوطنية الديمقراطية" المتأثرة بمفاهيم "حلقات فيينا"، داعية إلى عدم استباق المجتمع التونسي بهيكل حزبي شيوعي، لا يتناسب وتخلف تناقضاته القائمة بين وسائل وعلاقات الانتاج عن مرحلتها المتقدمة التي تقتضي ذلك النمط من النضال الذي نظرت له الماركسيّة طويلاً، وأثرته بتجاربها السياسية القائمة شرقاً وغرباً. أما النظرة الثانية، فقد عبر عنها بامتياز حزب العمال الشيوعي التونسي الذي قاده وجهٌ معروفٌ آت من منظمة العامل التونسي، هو حمّة الهمامي الذي لم يكتف بحسم الجدل في اتجاه بناء حزب ماركسي لينيني، اقترب شيئاً فشيئاً من الديمقراطية الاجتماعية، مسلماً بآليات الاحتكام لصندوق الاقتراع، وتقديم مقارعة الدكتاتورية على غيرها من التناقضات، وإنما ذهب إلى أبعد من ذلك، في خطوةٍ تاريخيةٍ، عندما دخل مع الحركة الإسلامية، ممثلةً في "النهضة" وريثة خصمه التاريخي حركة "الاتجاه الإسلامي" في تحالف "18 أكتوبر" الذي وجد فيه "الوطنيون الديمقراطيون في الجامعة" خطيئةً لا تغتفر.
وقد شكل ذلك التحالف مقدمة لما وصف بالتعايش الإسلامي العلماني في تونس، لم يصمد مع نذر استقطاب إيديولوجي حادّ، لعبت أياد خفيّة بعد قيام ثورة يناير 2011 على إذكائه، ثم جاءت نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، لتصبّ عليه زيت الطموحات السياسية المتناقضة، فانفرط العقد، ليس فقط بين حزب العمال الشيوعي والإسلاميين، بل وأيضا بينهم والحزب الديمقراطي التقدمي الذي يعرّف نفسه بأنه وسطي خال من أي دسم إيديولوجي. وبقطع النظر عمّن يتحمل مسؤولية هذا المآل الدراماتيكي لتحالف 18 اكتوبر، في ظل تقاذف التهم بين أطرافه، فإن اليسار التونسي حسم أمره مع اغتيال القياديين البارزين في الجبهة الشعبيّة، شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، وعادت الهوة سحيقةً بين الطرفين في ظل مطالباتٍ توسعت دائرتها بتنحي الإسلاميين عن السلطة، وتلويحٍ بخيار استبعادهم من المشهد السياسي تماماً.

بعد انتخابات 2014
لاح السيناريو المصري وشيكاً في تونس، لولا أنّ انتخابات العام 2014 التشريعية والرئاسية أعادت توزيع الأوراق والأدوار، ومهّدت، بنحو أو بآخر، لمرحلةٍ جديدةٍ تصدّرها حزب نداء تونس، سليل "العائلة الدستورية"، والمدجّج بقواعد كثيرة من حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي تم حله (حزب الرئيس المخلوع بن علي)، من دون أن تلحق بحركة النهضة هزيمة ساحقة، وكذلك من دون أن ينجح اليسار التونسي في تحقيق اختراقٍ تاريخيٍّ للساحة السياسية، فقد حلّ ثالثاً وبنتائج أفضل، لكن من دون ما كان يتأمله.

مجدّداً، وجد اليسار التونسي نفسه أمام مفارقته التاريخية، فهو الذي ساهم، وبفاعليةٍ، في تكييف المرحلة الجديدة، وقام بأدوار متقدمة في ما عرف باعتصام الرحيل الذي مهّد "لإسقاط" الترويكا من الحكم، وهو، إلى ذلك كله، أمدّ حزب نداء تونس الصاعد بوجوه يسارية تاريخية، أبرزها محسن مرزوق (انشقّ لاحقا ليؤسس حزب تونس المشروع، على خلفية رفضه تحالف "نداء تونس" مع حركة النهضة) المتحدر من العائلة الوطنية الديمقراطية ورفيق درب الرّاحل شكري بلعيد، ووزير الخارجية السابق الطيب البكوش الذي شغل، في وقت مضى، منصب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، قبل أن ينكفئ طوال حكم بن علي على خطة رئيس للمعهد العربي لحقوق الإنسان، مكتفيا باستثمار خلفيته الأكاديمية في إقامة فعاليات نظرية محدودة، كانت أقرب، في نظر منتقديها للبيروقراطية الحقوقية، منها لمعركة حامية بين نظام بن علي والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، فضلا عما تعرّض له مناضلون حقوقيون من قمع متواصل سنوات طويلة.
وجد اليسار التونسي نفسه إذاً قبالة مفارقاته التاريخيّة، قويّاً في ضعفه، وضعيفاً في قوّته، قادراً على إعادة الانتشار في ساحةٍ لم تمنحه الجماهيريّة التي تشكل جوهر خطابه، وطموحه السّياسي لقيادة تونس المستقبل، محتفظاً بشعرة معاوية، وبأفق مشترك للمنتسبين له من قريب وبعيد، الموجودين في المواقع المختلفة حد التضارب أحياناً، داخل الحكم وخارجه، ضمن "السلفية الماركسية"، أو في تعبيراتها التجديدية، بل وفي مواقع مناقضة للفكر والموقف الماركسي واليساري عامّة، كما فعل كلّ من القيادي التروتسكي التاريخي، منذر ثابت الذي تحوّل، بقدرة قادر بين عشيةٍ وضحاها، إلى قيادي لحزب ليبرالي "معارض" مرخص له. وسمير العبيدي القيادي التاريخي في الاتحاد العام لطلبة تونس (النقابة الطلابية اليسارية) الذي خاض مسيرةً سياسيةً، أخذته من توحيد الشتات الطلابي اليساري مطلع الثمانينات، إلى الالتحاق بركب المخلوع بن علي مستشاراً ثم وزيرا، ثم طوق نجاة أخير لبن علي، لما شرع يغرق في وحل قمع الثورة، ولاح نظامه يستهلك أنفاسه الأخيرة.
أمام ما يمكن وصفه بالشتات اليساري في تونس، أو المشهد اليساري العامّ فيها، ومع احتدام المعركة بين الشقين، اليساري والدستوري داخل حزب نداء تونس الحاكم حالياً، ذات الصلة بمقدار ما برفض هذا الحزب شرط الجبهة الشعبية استبعاد "النهضة" للدخول في تحالفٍ معه، تنتظر اليسار التونسي وقفة مفصلية ومصيرية، يحتاج فيها مجدّدا لتعريف نفسه، وإعادة قراءة الواقع التونسي في اتجاه ما، يراعي، في كل الأحوال، العوائق الموضوعية التي أبقت ذلك اليسار حبيس نخبويته، ورهين وظيفيته التي تعوّد "الدساترة" استثمارها، إمّا في تصفية طرفٍ أو تحجيمه وتقليم أظافره. وفي الانتظار، يبدو اليسار التونسي حاملاً قناعة تشي بها تفاصيل أطروحاته، إذ هو ممزقٌ بين قناعةٍ تعبر عنها قيادات الجبهة الشعبية، بأنها جاهزة للحكم، قادرة على التغيير، ومعرفة تلك القيادات أن الانتخابات بعيدة عن أن تمنح الجبهة تفويضاً جماهيرياً واسعاً يجرّب من خلاله التونسيون الوصفة اليسارية لأمراض تونس الثورة.
بين هذا وذاك، تلوح قناعةٌ يساريّةٌ بين ثنايا المقاربات، تقول إن المراهنة يجب أن تستمر على تونس المستقبل، تلك التي يُراد لها أن تقطع تحت عناوين التحديث والتنوير مزيداً من الأشواط، بعيداً عن أي نفس محافظ أو تقليدي، لتحسم في بناها الذهنية والاجتماعية الأكثر شيوعاً العلاقة، وإن تدريجياً مع بيئةٍ قديمة، لعل الكلمة تؤول شيئاً فشيئاً إلى مجتمع ليبرالي، ستظهر فيه تناقضات تعرفها المجتمعات الرأسمالية جيداً، وعندها سيكون هناك مجال ما لليسار لكي يعيد إنتاج نفسه وأدواره، متخففاً من وطأة تونس "القديمة" التي عاملته بوصفه "ملحداً" و"كافراً" و"معادياً لهوية البلاد العربية الإسلامية".
تحدّ يعرف اليسار التونسي عامة، والجبهة الشعبية خصوصاً، أنه لا يكفي لرفعه إدراج بعض المحجّبات تكتيكياً على القوائم الانتخابية، ومن قبلهن فقرات في لوائح المؤتمرات، تؤكد على التمسك بالهوية العربية الإسلامية والانتساب للحركة الإصلاحية في البلاد.. ولا سيما أنّ خصمه التاريخي أبدى استعداداً غير مسبوق، فاجأ به الجميع للذهاب بعيداً في ما يصفه متابعون بصراع "الضرائر" بين اليسار والإسلاميين على الاستئثار بحضن "ندائي" دافئ.. داخل أسرة دستوريةٍ تعاني ترهل قياداتها ومشيخية رموزها.

BA92A871-6561-4251-98A0-D593873AB4FA
BA92A871-6561-4251-98A0-D593873AB4FA
نبيل الريحاني

إعلامي تونسي، يعمل في قناة الجزيرة في الدوحة

نبيل الريحاني