رحلة إلى لبنان بعد سنة غياب
غبتُ سنة بأكلمها عن لبنان. في أثنائها، تدرّبتُ على نوعٍ جديد من "التكيّف". ليس على مضض، كما قد يتراءى من تجربة كبار السن مثلي. فقبل أيامي الأولى في بلاد الصقيع هذه، قلتُ لنفسي ما يلي: لم يعُد مفيداً ولا لائقاً ولا منطقياً أن أتكيّف مع انهيار لبنان. كنتُ خلال السنوات العشر الأخيرة أبذل ما تجوده عليّ إرادة البقاء، من أنواعٍ لا تُحصى من التكيّفات. وكل مرّة، تُضاف إلى "برنامجي" نقطة جديدة، موضوع تكيّف. وكل مرّة، أدعو في قلبي ألا تزيد الأمور سوءاً. وأضيف أنني الآن ما زلتُ قادرة على "التكيّف". ولكن غداً؟ إذا سقطت واحدةٌ من كبريات أحجار الدومينو؟ ماذا يخبئ لنا هذا الغد؟ وأكتب ضد التكيّف، أهجوه، أسفّهه، وأقول إنه واحد من أركان الانهيار. ولكن من دون التخلّي لحظةً عن تمرينات التكيّف.. بصفتها قتالا من أجل البقاء.
حتى انفجار المرفأ شبه النوَوي .. الذي أوضح لي أن كل محاولات التكيّف الشخصية التي بذلتها جاءت بنتيجة صفر، أي من غير أن تدرّ عليّ أية نعمة، بل بالعكس، بضربها مقوّمات استمراري. لذلك، عندما هاجرتُ إلى بلاد الصقيع، وتحتّمتْ عليّ عملية تكيّفٍ جديدةٍ قاسية، قلتُ لنفسي إنني خارجة من جحيم، نحو إمكانية أن أعيش، ليس في الجنة بالضبط، إنما في مكانٍ سوف يكافئني على تكيفي مع نظامه ما بعد الحداثي وعواصفه الثلجية. وكان من شروط هذا التكيف ألا أشتاق. وإذا فعلتُ، إذا اقتربتُ من تلك المنطقة التي حرّمتها على نفسي، يوجعني قلبي، تتعطّل طاقاتي، ويضيع جديد تكيّفي، فأبتعد بسرعةٍ من تلك المنطقة، أهرب منها.
وعندما جئتُ إلى لبنان في زيارةٍ قصيرة، بعد هذه السنة الصامتة، شيءٌ ما حرّك شوقي. مع قليلٍ من الذنب على تجنّبي له طوال تلك السنة. وقلتُ لنفسي إن الجغرافيا الآن تتطلب مني العودة إلى تكيّفي القديم. الآن، لا يختلّ ميزاني إذا أطلقتُ العنان لشوقي. وكأنني بذلك عدتُ إلى خوض معركة مباشرة، عادية، من دون مصفاة المسافات، أو الغربة، أو إرادة البقاء.
كل أنواع الكهرباء مقطوعة، كهرباء "الدولة" الرسمية العامة، وكهرباء "الاشتراك" الأهلية الخاصة
لم أسكن في بيتي، الواقع داخل العاصمة. لا كهرباء فيه ولا ماء. إنما عند أختي، في أعالي إحدى التلال المطلّة عليها. منذ اليوم الأول، عدتُ إلى عادتي القديمة. أستفيق قبل الفجر. وكل أنواع الكهرباء مقطوعة. كهرباء "الدولة" الرسمية العامة، وكهرباء "الاشتراك" الأهلية الخاصة. أقف أمام النافذة التي تطلّ على الخارج. المشهد ليس "شاملا". فأمامي بالضبط عمارة قليلة الارتفاع، ولكنها تفصل بين جنوب النافذة وشمالها. أجْمد أمام النافذة، وماذا أفعل؟ أسارع إلى تنشّق عطر الفجر، قبل أن تدوس عليه عوادم السيارات ومازوت المولدات وتعفّن النفايات. ثم أحدّق بالناحيتين، لعلّني أنجح في التقاط شيءٍ من الطبيعة المحيطة، في الهواء الطلق، أو حتى شيء من العمران.. فماذا "أرى"؟ في الجنوب سوادا صافيا. أحمْلق في هذا السواد. أحاول أن أتذكّر كيف تبدو هذه الجهة عندما يطلع الضوء. ولكن المحاولة تفشل. فألتَهم هذا السواد المديد، أنسى نفسي. لأعود ببعض نقاط ضوء في الجهة الجنوبية من النافذة. أضواء قليلة، مبعثرة. أتنفّس قليلاً. ولكن مع توالي الأيام، تتناقص أعداد هذه النقاط. كل يوم ينطفئ ضوء أو اثنان. ولا أعرف الآن، بعد مرور شهر على عودتي من لبنان، إن كانت الجهة الجنوبية قد انطفأت كلياً، كما حصل مع الجهة الشمالية..
المستقبل؟ لا تسأل. سواد الموت أرحم. إلا في المستقبل البعيد ربما. بعد أن تصبح عظامنا مكاحِل
لم أصمد كثيراً في عملية تكيفي القديم. خيبتُ نفسي بنفسي. وغصّة ودمعة محبوستَان، طوال النهار. ودخل الوقت على الخط. بعفوية، من دون إذن. الحاضر هنا، يا عزيزتي، هو ما ترينه الآن. سواد عظيم. لا شيء محبّب فيه، ولا مبهج. بالعكس، يُعمي البصر، يُبطل البصيرة. واقع في مخالب اليأس الشامل. اليأس العقيم. المستقبل؟ لا تسأل. سواد الموت أرحم. إلا في المستقبل البعيد ربما. بعد أن تصبح عظامنا مكاحِل. وكيف "يعود" لبنان إلى نفسه؟ كيف يكون وجه لبنان من بعد هذا المستقبل؟
يبقى الماضي. وليس أي ماضٍ. أو تلك السنوات العشر الأخيرة، التي دفعنا نُذُرها غالياً. انتفضنا عليها بما ملكنا من رجاء. لم نفرح بها كما كنا نفرح في ماضٍ أبعد. وكلما ابتعد هذا الماضي كان أكثر جاذبية، أكثر مدعاة للشوق. واضحٌ هنا أن تحديقي بالسواد أصابني بالشوق إلى ذاك الماضي الذي أصبح غابراً. هكذا أخذتْ طاقة الشوق حريتها، هجمَ عليّ الشوق، فانفصلت الجغرافيا عن التاريخ.
كيف دارَيتُ هذا الشوق؟ كيف تفاعلتُ معه؟ الآن أفهم ماذا فعل بي الشوق. في لحظتها، كأن يداً صديقة تقودني، من دون أن تشرح لي معنى ما تريدني أن أفعل. تقودني إلى الأواصر القديمة: إلى أختي، إلى أبناء عمومتي وخالاتي، إلى الأصدقاء الخلصاء، الذين لم أنقطع عنهم خلال وجودي الأخير في لبنان. ولكن أيضاً، وبشكل خاص، قادتني هذه العفوية إلى الاتصال بمن لم أره منذ أربعين وخمس وأربعين سنة. زملائي في الجامعة ورفاقي القدماء. وعلى الرغم من تعثر المواصلات، وانكباب الجُدُد والقدماء في هموم الإنهيار القاتل .. وجدتُ نفسي في المقهى، على موعدٍ مع ليندا، أمل، ميشال، دينا، جورج، يولاند .. فكانت لقاءاتٍ كثيفة، متّقدة، تثير القشْعريرة. تحمل الانهيار على كتفيها، حزينة، مكْفهرة.. ولكنها أسعدتني. أدخلتني إلى عالم مألوف. بدفئه وأُنسه، والطمأنينة المتجلّية فيه. عالمه، مسرحه، نحن. عندما كنا شبابا، تغمرنا البراءة. ولم تكن الحياة قد كذَّبت علينا مليون كذبة، بعد.
يبقى الماضي. وليس أي ماضٍ. أو تلك السنوات العشر الأخيرة، التي دفعنا نُذُرها غالياً. انتفضنا عليها بما ملكنا من رجاء
واليَد نفسها، من دون إبطاء، كانت تقودني إلى حارسةٍ أخرى للذاكرة. ألبومات الصور والرسائل القديمة. كنتُ أخشى طوال هذه السنة المنصرمة، أن يصيبها صاروخ، فيحرقها كلها، فتزداد حرقتي من بعيد. وأقول لنفسي إن لي سويّة مع أولئك الذين دمّرت بيوتهم وفقدوا صورهم إلى الأبد.
جمعتُ الرسائل والصور في شنطة، وأخذتها معي، في رحلة عودتي إلى بلاد الصقيع. ساعات طويلة قضيتها معها. مسرح آخر للذاكرة. رسائل طريفة، سعيدة، وأخرى كئيبة، دراماتيكية أحياناً. وصور الطفولة والشباب. وخلف كل واحدةٍ منها قصة، تمتعتُ بدفئها أيضاً، فأبهجتني رفقتها. إنه الماضي بامتياز. مثل أصدقاء الخمسة والأربعين سنة، وأقدم منهم. مسرحٌ خُلِّدت بعض وقْفاته.
ماذا أفعل الآن بهذا كله؟ بعدما عدتُ إلى الصقيع؟ أتذكّر. ذاكرتي هي حصانتي. وأحمُد القدر أحياناً أنها، أي ذاكرتي، على الرغم من ثقلها، هي أيضاً مثل مخزوني الشتوي. مخزون الغرْبة، نقيضة الألفة. مخزون القصص التي لن تنقطع في هذه الغربة. بلا قصة، في الغربة، أنت بلا معنى. بلا ألوان. بلا حرية.
ولكن أيضاً، عليّ الانتباه إلى عدم الغرَق في شوقٍ كهذا. لو أُخْليت حدوده، كما قال الشاعر، يتحوّل الشوق إلى عملية تكرارٍ لكلماتٍ وعباراتٍ رتيبة، مؤلمة، مضْجرة، متْعبة. يصير شَبَه الضباب الخفيف، الذي يضيّع الأفكار ويخلطها ببعضها. والشوق ينطوي على مرارة، خيبة، على استياءٍ من ظلم، على غضبٍ أو حقد. وفي نهاية طريقه، تفقد شجرته خضارها، عُصارها. هزيلة بلا حيوية، وغصونها بلا ثمار.
الشوق، الذاكرة، الحنين .. هم السجن وهم الحرية.