رئيس محبوب متوحد في "صومعته"

20 فبراير 2021

قيس سعيد في قصر قرطاج (2/9/2020/فرانس برس)

+ الخط -

شاهد كاتب هذه الكلمات، مثل غيره، مشهد تسليم الرئيس التونسي قيس سعيد رئيس التشريفات (المراسم) كتابا كتبه الرئيس لرئيس الوزراء، أو وزيره الأول هشام المشيشي، مع تنبيه المستلم أن يوصل الساعة الكتاب إلى صاحب البريد، وأن لا يرجعن هذا إلى القصر الرئاسي إلا بعد أن يتيقن من استلام المرسل إليه الكتاب، وهو على هيئة صحيفة مخطوطة بخط يد الرئيس، وقد جرى تجفيف الحبر عليها بمجففة المكتب اليدوية، قبل لفّ الكتاب بشريط أحمر.

تنتاب المرء مشاعر العجب للدور الذي يصر الرئيس سعيّد على أن يتقمصه، وهو دور خليفةٍ ساهر على المصالح السامية للرعية، ولقيم الحق والعدالة والاستقامة واجبة الإنفاذ، مع نكران أهمية الوسائط، أو التقليل من شأنها. وعلى الأرجح، لا يُخبر الرئيس سعيد نفسه أن سلوكه هذا، المقترن بمخاطبة فصيحة جهورية النبرة، يثير الاستغراب الجم، وذلك لفرط الحرص على الظهور بمظهر "تاريخي"، ينتمي إلى مواضعات تاريخ سابق، وكذلك لما يبدو على الرجل من استنفار لمنازلة وزيره الأول منازلةً علنيةً على رؤوس الأشهاد على الصلاحيات، وعلى ضوابط تسيير الشأن العام، بما فيها تسمية وزراء جدد، وهو مما تكتمه أنظمة الحكم، لأن مثل هذه الاختلافات المعلنة تلحق الضرر بصورة الدولة، وتبث عنها انطباعا بالاضطراب والشخصنة، فيما يُصار الى معالجة مثل هذه الحالات بالتكتم، ووفقاً لمقتضيات الدستور والأعراف العليا، بما يحفظ هيبة الحكم وتماسكه، وبما يدعو بقية المؤسسات إلى أخذ ناصية الرصانة وسلوك الأقنية والآليات الدستورية والقانونية، في تدبير أمورها، بعيداً عن الهوى والاستعراض.

وليس معلوماً إذا كان الرئيس المُبتلى بالحكم (وفق وصفه تسلمه مسؤوليات الحكم)، قد وقف على ردود الفعل على ذلك المشهد، الذي كان يتعين أن لا يظهر إلى العلن، فما حاجة الجمهور لمعرفة أن الرئيس حمّل رئيس التشريفات رسالة لـ"صاحب البريد"، إذ إن مثل هذا الإجراء هو من يوميات معهودة ورتيبة لممارسة الحكم في قصر قرطاج، وسواه من دوائر الحكم العليا في العالم، ولا حاجة لإذاعتها وإظهارها على الملأ، كما لا حاجة للمخاطبة بالفصحى الفصيحة التامة، التي كانت، بهذا القدر أو ذاك، تجري على ألسنة قبائل في شبه الجزيرة العربية في عهد الخلفاء الأربعة، وهي ليست من اللهجات السائرة لأبناء الديار التونسية، وإن كانت تُستخدم في المراسلات الرسمية، وفي إذاعة الأخبار، كما في مؤلفات العلم والأدب وسائر ألوان المعرفة.. وواقع الحال أن قيس سعيد يظلم العربية، إذ يستخدمها في غير موضعها، وفي غير أوان استخدامها، ما قد يُنفر كثيرين منها، ويثبط الحملة الداعية إلى تعريبٍ أوسع نطاقا.

لا يجد الرئيس التونسي نفسه في النظام الذي وصل من خلال آلياته إلى الحكم

ومن الجلي أن هذه الواقعة تشير، بين ما تشير إليه، إلى أن الرئيس يعيش، للأسف، غربة نفسية ولغوية مكينة عما حوله، وأنه ما انفكّ يفاقم الفجوة ويزيدها اتساعا بينه وبين الجمهور العريض، بمن في ذلك الملايين ممن اقترعوا له حبا وطواعية في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الميلادي 2019، مستبشرين بشخصه وشمائله الرفيعة. بل إنه، علاوة على ذلك، يزيد من الانفصال بينه وبين موقعه مسؤولاً أولاً للبلاد، إذ لا يتوانى عن إبداء التبرّم بالنظام وآلياته الدستورية وبالأحزاب والتيارات السياسية والفكرية، ناعياً عليها ضعف الجدارة والأهلية، وحتى طاعنا بتمثيلها الشعب. وهو أمر يثير العجب، فلكل شخص أن يتبنى ما شاء من آراء وأفكار وقناعات ومعتقدات، حتى لو كان رئيسا للجمهورية، غير أن الأفكار الشخصية لا تجيز انفصاله عن الدولة التي يقودها، فيسلك سلوكاً مزدوجاً يجعله معارضاً داخل القصر، ويكابد صعوبةً بنيوية في الانتقال من موقع رجل القانون المستقل حزبياً إلى موقع رئيس البلاد الذي يسهر على تسيير الشان العام وفقاً للدستور. وبصرف النظر عن رأيه الخاص في الأحزاب والنواب، فهؤلاء يمثلون في هذه الآونة الشعب، ولهم أن يزاولوا الصلاحيات والسلطات التشريعية والرقابية، وأن يختاروا من بينهم من يتولى السلطة التنفيذية، وللرئيس أن يحتفظ بآرائه الذاتية لنفسه، وأن يباشر مهامه وصلاحياته بغير نقصان، تماماً كما أن على ممثلي الشعب وزعماء الأحزاب أن يحترموا موقع الرئاسة المنتخبة بالاقتراع المباشر، بصرف النظر عن رأي أيٍّ منهم بالرئيس، وأن تتجاوز الخلافات والاجتهادات القبول أو النفور الشخصي إلى رحبة الاحتكام إلى الدستور، وإلى مصلحة البلاد والعباد في عبور المرحلة الانتقالية التي طال العهد عليها، والانصراف إلى معالجة المعضل الاقتصادي والاجتماعي الذي يثقل كاهل ملايين التوانسة، والذي يُخرج الشبان المتعطّلين عن طورهم، ويدفعهم إلى عنف مرذول.

مؤسف أن تجربة وصول رجل إصلاحي، ذي خلفية قانونية ونزعة أخلاقية، إلى سدّة الحكم عبر صناديق الاقتراع، بات الإخفاق يحفّ بها

إنه لمن المؤسف حقا أن تجربة وصول رجل إصلاحي، ذي خلفية قانونية ونزعة أخلاقية، من خارج النخبة المعروفة، إلى سدّة الحكم عبر صناديق الاقتراع، قد بات الإخفاق يحفّ بها. لأسباب بسيطة وأخرى مركبة. ومن الأسباب البسيطة المباشرة أن الرجل لا يجد نفسه في النظام الذي وصل من خلال آلياته إلى الحكم، وإذا كان ذلك من حقه، فإن هذا الحق منوطٌ بأن يعمل الرئيس مع قوى منتخبة وتمثيلية أخرى إلى إجراء "إصلاحات" وفق ما يتيحه الدستور إذا أمكنه ذلك، وإذا وجد قوى أو ممثلين يتوافقون معه، ويشكلون معا كتلة وازنة، غير أن الرئيس الذي يضع مسافة واحدة مع الجميع، فإنه يضعها بروح سلبية متنائية، قوامها الانقطاع عن جملة الآخرين، والركون إلى حالةٍ تشبه التوحد السياسي والرهبنة الفكرية. ويقيناً أن الحكم لا يُدار بهذه الطريقة، وأن للرئيس الاستماع إلى مستشارين أكفاء، يمثلون مكونات المجتمع وحساسياته، لا أن يستمع فحسب إلى أمثولاتٍ يلهج بها التراث والتاريخ، في انقطاعٍ مشهودٍ عن أحكام الزمان والمكان. ومن الأسباب المركبة أن هذا الإخفاق الذي يلوح يعود إلى عوامل تتعلق بالتدافع السياسي غير المنضبط بين قوى حزبية، لم تبثت سهرها على الديمقراطية والإصلاح داخل بيوتها الحزبية، ولا على انشغالها بالصالح العام، مقارنة بانصرافها إلى التنافس المحموم على التصدّر، وإلى مسؤولية مختلف الأطراف عن التلكؤ في إنشاء محكمة دستورية تبتّ في المسؤوليات والمهام المنوطة بمراتب الحكم ومستوياته المختلفة، بغير تداخل أو افتئات. إلى جملة ظروفٍ عامة أخرى، متعلقة بانتشار جائحة كورونا، وانعكاسها الثقيل على الحراك الاقتصادي، ومنه القطاع السياحي الضخم (سبق أن قال مسؤولون تونسيون، من دون أن يجانبهم الحق، إن ظروف البلاد لا تسمح بأي إغلاق للقطاعات الاقتصادية). وعلاوة على هذا، فإن حملة التطعيم ضد الوباء لم تبدأ بعد في البلاد حتى تاريخه، ما يثير قلقا مشروعا.

هل يروم الرئيس أن ينشغل الناس، داخل تونس وخارجها، بمخاطباته ومنازعاته مع رؤوس في السلطتين، التنفيذية والتشريعية، بدلاً من الاهتمام بدوران عجلة الحياة من جديد؟