ذكرى تشرين العراقية والدولة المفقودة
ليس أكتوبر/ تشرين الأول من الشهور المثيرة والدرامية في العراق. عادة كان الخريف هادئاً سياسياً هناك. يُستقبل بَدءُ انخفاض الحرارة إلى مستوياتٍ مرضية للعراقيين المعتادين على درجات أربعينية وخمسينية. سجّل التاريخ الحديث حدثاً مهماً لافتاً وحيداً في هذا الفصل، تخلُّص الرئيس الأسبق عبد السلام عارف من حلفائه البعثيين وحلَّ مليشيا الحرس القومي التابعة لهم في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1963... لكنّ خريف عام 2019 كان مختلفاً. في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول ذلك العام، انطلقت الموجة الأولى من الاحتجاجات الأوسع في تاريخ العراق. توقفتْ مؤقتاً احتراماً لمناسبة دينية، ثم عادت في الخامس والعشرين من الشهر نفسه. حدث جاء ضمن تسلسل احتجاجات افتُتحتْ منذ حركة "بغداد لن تكون قندهار" 2010، مروراً بتظاهرات فبراير/ شباط 2011، ثم حراك 2015.
هي 12 سنة من الاحتجاجات. تتالى فيها أربعة رؤساء وزراء، وثلاثة رؤساء جمهورية ومثلهم لرئاسة البرلمان. تغيير متعدّد في الوجوه، ولا نتائج تُذكر لمعالجة المشكلة الأصلية، وهي عدم وجود دولة. مع هذا الفقد، تزداد خسائر البلاد. فقدان الدولة يترتب عليه كثيرٌ مما يجري، وإذا استمر كما هو عليه الآن، لن تؤدّي كلّ الإجراءات إلى نتيجة. عدم وجود دولة يعني المليشيا، وزعامات فوق القانون، وانقسامات مخلّة وتدخلات خارجية عميقة، وشيوع كل أشكال الجريمة والنزاعات. الدولة، وليست السلطة، هي الشرط الأول لبدء بناء بلدٍ بالمعنى الحديث للمفردة.
حين شرع العراق طريق خسارة الدولة منذ تفكّكها بعد حماقة احتلال الكويت، أي مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، عادت الأنماط القديمة وظهرت سلطات بديلة. العشائر والجماعات والتكيات وزعامات الطوائف والقوميات... أخذت طريقها إلى أن تصبح هي الأصل، بل اعتمد النظام السابق الفاقد دولته عليها لتعويض سلطانه، وهكذا فعل ورثته. مع الوقت وسقوط النظام واحتلال البلاد وشيوع الفوضى، اتسعت الهوّة بين اعتيادِ العراقيين السابق على وجود دولة وانتقالهم اللاحق إلى الأنماط البديلة للحماية وتسيير الأوضاع. لهذا، كان جلياً لصديقٍ يعمل خبيراً في قطاع المصارف الأوروبية زار العراق أول مرة بعد عشرين عاماً من مغادرته، أنّ من يسيّر وضع البلاد هو القطاع الأهلي. يوفّر الناس لأنفسهم كثيراً من مهام الدولة. صحيحٌ أنّ الرواتب تصرفها الحكومة على نحو خمسة ملايين موظف، لكنّ العلاقات الاقتصادية ليست خاضعة لتوجّه الدولة المنظم، بل لنمط من العقد "التخادمي" الضمني بين أطراف السوق الأهلية والجماعات السياسية والمسلحة العديدة.
الدكتاتورية يمكن أن تكون على رأس دولة، لكنّها مع الوقت تفقد قدراتها الهيكلية، وتصبح منظومة حكم موجّهة الشروط وخاضعة
لا عذر هنا بأنّ البلاد عانت من الإرهاب أو السلاح المنفلت، كون إمكانية إعادة بناء الدولة توفّرت أكثر من مرة، وتحديداً بعدما وضعت حرب الجماعات الطائفية أوزارها بدءاً بعام 2008. فرّطَ الحكام بالفرص، لأنّ الجميع كان ولا يزال مرتاحاً لتقاسم النفوذ المتناقض تماماً مع وجود هيكل حقيقي موحِّد وموحَّد، أو كما يسمّى في الفيدرالية النظام الاتحادي. الجميع بلا استثناء لم يرغب بهذا الهيكل، حتى الذين قيل إنّ مصلحتهم السيطرة الكاملة على الحكم، مثل نوري المالكي ومقتدى الصدر، لم يطلبوا بناء دولة، إنما أريد بناء نظام سياسي يخضع لشروطٍ تشبه شروط الهيكل الحديث، يسيطر عليه زعيم واحد. أمر مهّد له الرئيس الأسبق، صدّام حسين، حين أخذ الأمور على حين غرّة، وبدأ يحوّل الدولة إلى منظومة سياسية تخضع لشروطه تحديداً. الدكتاتورية يمكن أن تكون على رأس دولة، لكنّها مع الوقت تفقد قدراتها الهيكلية، وتصبح منظومة حكم موجّهة الشروط وخاضعة، وفي النهاية، تصبح خيال دولة.
في ظلّ ظروف فقدان هذا الكيان، اندلعت الاحتجاجات. هل كان المحتجّون يريدون دولة بالمعنى الدقيق؟ لا أظن أن الموضوع قُصد بالدقة، لأننا هنا يصعُب أن نجد وعياً جماعياً ثقافياً متقدّماً. لكن، يمكن التقاط شعارات ومقولات ومطالب تشير إلى رغبة غير مكتملة الفهم ببناء دولة. ففي حراك 2019 مثلاً، كان العنوانُ الرئيس هو "نريد وطن". يختصر هذا الشعار فكرة الدولة لكن من مدخل آخر، وهو الوطن المفقود بفعل خسارة السلام والاستقرار. وفي احتجاجات 2011، كانت إحدى صفحات التواصل الاجتماعي الرئيسة تحمل عنوان "نريد أن نعرف". في تظاهرات 2015 طالبت بعض الشرائح بنظام رئاسي، ظناً منها أنّه ضمانة لإنهاء الشتات. وقد عبّرت مواجهة المشروع الإيراني في الاحتجاجات على مدى عقد عن رغبة صريحة لدى المتظاهرين بأن يكون بلدهم مستقلاً وذا سيادة. حتى حنين بعض الناس إلى عهد صدّام باعتباره نسبياً كان عهد دولة خلال حقبة ثمانينيات القرن الماضي وما قبلها، رغم كلّ ما فعله، هو جزءٌ من مطلبٍ لوجود كيان. هذه التقاطات من هنا وهناك تؤشر إلى أنّ الناس يبحثون عن إطار جامع ينهي مراكز القوى.
الخطاب المحتج يفتقر إلى تحديد أولوياته. يريد بعض أطرافه إسقاط النظام كاملاً، إن صحّت تسمية الفوضى السياسية نظاماً
رغم هذه المؤشرات والالتقاطات، يثير غياب مطلب بناء دولة سؤالاً بشأن ما إذا كان المجتمع أو المجتمعات العراقية مستعدّة لفكرة وجود هذا الكيان، لأنّ لوجودها استحقاقات على الجميع أن يكون التعامل معها. لعلّ الأمر بات أقرب هذه السنوات إلى الرغبة بالعودة إلى إطار جامع ومنظم، غير أنّ المافيات المالية المحلية المستفيدة من الفوضى من جهة، والجماعات السياسية والمسلحة المتنفذة من جهة أخرى، العقبة الكبيرة الآن. هذا لا يقتصر على الذين يوصفون بأتباع إيران، مثل جماعة المالكي والمليشيات الولائية لخامنئي داخل "الحشد الشعبي"، بل يشمل كلّ الزعامات التي ستضيع أو تضعف لو بنيت دولة حقيقية، مثل الصدر وآل برزاني وآل الحكيم وآل طالباني والحلبوسي. هؤلاء سيخسرون كثيراً أو سوف يفقدون كلّ شيء إن وُجدت الدولة، لأنّ وجودهم يعني ملفات قضائية مفتوحة، وملاحقات أمنية لا تقتصر على جهة دون أخرى، وخسارة تقاسم السلطة والثروات بالطريقة السائدة. لهذا، هناك إرادة سياسية ملحّة، مدعومة بمافيات مالية وتوجهات إقليمية، لبقاء وضع اللادولة.
المشكلة أنّ الخطاب المحتج يفتقر إلى تحديد أولوياته. يريد بعض أطرافه إسقاط النظام كاملاً، إن صحّت تسمية الفوضى السياسية نظاماً. يريد آخرون إصلاحه، وليس جلياً كيف يمكن إصلاح واقع بلا بناء دولة. هذا تحدّ صعب، وتبدو فرص اجتيازه بنجاح قليلة، في ظلّ الوعي الراهن والظروف المحيطة به. فهل تكفي التظاهرات كي تقلب نظام الحكم، أم لا بد من انتظار انقلاب عسكري أو تدخل خارجي؟
في حالة البحث عن حل سريع ومستعجل، لا واحدة من تلك الخيارات ممكنة، هي عاجزة عن إحداث تغييرٍ كامل، مهما بدا أن منظومة الخراب القائمة فقدت أسباب بقائها. ما هو موجود هو حالة غضب نتيجة الهراء والاستهتار في العراق، خصوصاً بعد ما ارتكبته سلطة عادل عبد المهدي والمليشيات من جرائم أدّت إلى مقتل مئات المتظاهرين خلال شهرين أو ثلاثة. والآن، بعد أن صُفّي أكثرُ الناشطين وتحفّظ من بقي منهم، يسود الرعب، رغم تراجع الدور الإيراني في العراق. أما حُقنة الإتيان بمصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء من خارج الأحزاب الحاكمة، فلم تكن سوى مسكّن بهدف تخفيف الغضب ليس أكثر. الرجل، في حدود إمكاناته ووعيه كشخص محاط ببعض المشتغلين في الثقافة، واجهة للتهدئة. المشكلة أكبر منه، بل هي أكبر من أي شخصٍ في الوقت الحالي.
يحتاج الناس ممن يعانون في العراق من فقدان العدالة والخدمات والحياة المستقرّة والأمن إلى حل سريع
الحراك السياسي المستمر الآن هو صراع على السلطة، لا طريق منه إلى بناء الدولة. والأصوات المعارضة غير الحزبية داخل البلاد ليست أكثر من صرخاتٍ غاضبة لقطع طريق عام بسبب اجتماع حكومي أو لاحتواء ثلة من المتظاهرين. ومعارضو الخارج لا يمثلون قوّة إنما هم أفراد لا جامع بينهم، خصوصاً أن كثيرين من عراقيي الخارج تربطهم مصالح مالية مع الحاكمين. من قنصوا المتظاهرين واغتالوا ناشطيهم أو تسبّبوا في ابتعادهم من المشهد أو هربهم من العراق، نجحوا في تقويض قوة الضغط الشعبية غير الحزبية. ولم يبق لدى هذه القوة سوى خيارها الذي لجأت إليه في الانتخابات المبكرة، وهو مقاطعة الانتخابات.
هذا ليس المسارَ الوحيد، ولم يكن قط الطريقَ الأفضل. ما نجحت فيه الاحتجاجات أبعد بكثير من تغيير الوجوه. العراق تغيرت فيه الوجوه كثيراً من دون جدوى. النجاح، وسط الغضب، هو أنماط تفكير جديدة وأسئلة تمسّ جواهرَ المشكلات وإيجاد بذرة صالحة لزراعة قوى بديلة على مديات أبعد. لعلها قادرة أن تؤسّس سياقاً مختلفاً، يجعل التغيير المقبل مختلفاً عما عهده العراق. هذا مشروطٌ بظهور سردية معرفية ونقدية جديدة تستطيع أن تلاحق المتغيرات العالمية والإقليمية والداخلية، وتخلق أرضية جديدة تتحرّك فوقها عملية التغيير، بالاعتماد على أن الاحتجاجات راكمتْ مستوى من الفهم والإدراك يمكن أن يساعد على تشكيل تلك الأرضية. بالطبع، يحتاج الناس ممن يعانون في العراق من فقدان العدالة والخدمات والحياة المستقرّة والأمن إلى حل سريع، هذا ضرورة، الأمر بعيد المدى، فهو اختيار ما هو صحيح على ما هو سهل. النحت على الصخر، مهما كان بطيئاً، الضمانة الوحيدة الثابتة للتغيير وليس تبديل الوجوه، إذ حتى لو سقطت منظومة الخراب أو سيطر أحد أطرافها على السلة كلها، ستتكرّر المشكلة، وسيرث هؤلاء آخرون يواصلون التدحرج المستمر عقوداً.