دينٌ لله ودينٌ للناس

21 يونيو 2024
+ الخط -

يقدّم كل دينٍ للمؤمنين به طرقاً عديدة لاختبار إيمانهم وتحفيزه، ليس فقط من خلال الجانب التعبّدي، بل عبر الجانب الاجتماعي كذلك، فهو يكتمل في سلوك أهله بالطقوس الفردية والجماعية، ثم يُتوّج بالطقوس الاحتفالية، لأنّ البشر كائنات "فرفوشة"، تحب الاحتفال والخروج عن الاعتياد. وكل هذه الطقوس الاحتفالية التي عرفتها البشرية، منذ نزولها المدوّي إلى الأرض، تُثبت ذلك. والإنسان يفسّر هذه الطقوس ويتفاعل معها، حسب رغبته وقدرته وأولوياته، فقد يختار الإيمان بدين من دون الالتزام بطقوسه.

في طقوس الأديان، يكون الدين أحياناً لله، وأحيانا للناس. وقد يكون أحيانا سلوكاً استهلاكياً، في "تديّن استهلاكي"، أو "تديّن مظاهري" يتديّن فيه الناس للناس. ورغم أن الناس يؤدّون الصلوات حين يرغبون، ويصومون كلّ على قدر رغبته وقدرته، لكنهم جميعا يريدون أن يحتفلوا بالعيد، لأنّه لم يعد طقساً دينيّاً، بل صار طقساً اجتماعياً. ومع ذلك، إذا نُصح مُعيل أسرة فقيرة بالتخلي عن الأُضحية يرى ذلك إنكاراً لإحدى الشعائر الكبرى في الدين، مع أنه هو نفسه قد يكون غير متديّنٍ بشكل عام.

كل دين يحمل مجموعة طقوس وشعائر، لكنها كلها مجانية، إلا شعائر الحج التي تتطلب من أتباع الديانات الانتقال إلى مناطق بعيدة لزيارة المحجّ. بما يفرضه السفر من مصاريف لا يتحمّلها الجميع، والشعائر الاحتفالية الجماعية التي أصبحت أولوية، بسبب ما يرافقها من طقوس اجتماعية وقيم استهلاكية. وهنا مربط الفرس الجامح، الذي انطلق راكضا ليقود الشعائر الاحتفالية إلى السوق، لتصبح مؤشّراً تجارياً لا غير. يمكن استخدام البُعد الديني له حين الحاجة، أما الباقي فلا مجال لحصر حجم التسويق له. حيث تكبر فرحة العيد، حسب الحملات الترويجية، حين تكثر الطقوس الاحتفالية، وتتنوّع الأطباق التقليدية المتوارثة، لتضيف إليها الهيمنة التسويقية لعصر الاستهلاك رمزية مادية تكاد تغطّي على البعد الديني.

كان عيد الأضحى هذا الأسبوع فرصة لنشر الحزن لا الفرحة، فأخيراً صار عدد الذين لم يستطيعوا تحمّل كلفة الأضحية في المغرب كبيراً بحيث خرجوا إلى العلن. بعد أن فاقت كلفته رغبة الخضوع للمظاهر التي تُجبِر الذي لا يجد ما يوسِع به على نفسه من الأكل بقية السنة، "يتقاتل" من أجل خروفٍ يدخله لأبنائه. وصار الأب الذي لم يحرص يوماً على مشاعرهم في بقية الأيام حريصاً فجأة على مراعاتها، واقتناء الخروف، حتى لو فعل المستحيل لذلك. لأن العيد هو الخروف لا غير، وهو الذي يسمّى "العيد" بكل بساطة.

كانت الأسرة تحافظ على "ماء الوجه" في المجتمع بأداء الطقوس التي تفوق مقدرتها المالية، سواء بالحفلات العائلية، مثل الأعراس، أو الدينية مثل عيد الأضحى، فـ"الماء" هنا يصبح أهم من اللّحم ومن سيأكله، في مسرحيات الحياة الاجتماعية، كما يصفها عالم الاجتماع الكندي إرفين غوفمان (Erving Goffman)، إلى درجة أن ميزانية الأسرة للعيد في الأوساط الأقلّ دخلاً تبلغ 60% من ميزانية الأسر السنوية المخصّصة للحم. وبما أن جل هذه الأسر عاجزة عن تحمّل هذه الميزانية، وجد الفقراء أنفسهم خارج الدين الاحتفالي، لأن تجارة الدين تكيل الإيمان بمعايير السّوق.

ويمكن تفهم الأثر النفسي على الأسر العاجزة عن تحمّل الارتفاع الجنوني للأسعار، بالأهمية الاجتماعية للطقوس الاحتفالية، فالممارسة الطقسية الدينية مع كثافة اللقاءات الإنسانية تحقق للمنخرطين فيها توازناً وجدانياً، قد يفتقدونه في حياتهم اليومية، في ما يُشبه "العلاج التطهيري" للقلق الوجودي.

من هنا يتأتّى الشعور العميق بالقهر، الذي يعبر عنه العاجزون عن مواكبة تكاليف الاحتفالات التي يعلى سقفها يوماً عن يوم، فهي بالنسبة لهم تأكيد على مساواة مادّية، متمثلة في الخروف، مع محيطهم العائلي والجيران، في ما يشبه عدالة اجتماعية قصيرة المدى، عميقة الأثر.

والاحتجاج على هذا الإقصاء يفوق تصريح المعنيين بأن الأمر يتعلق بأطفالهم، أو بأن العيد مناسبة نادرة لإدخال اللحم إلى بيوتهم، أو لأن الأضحية، بخشوع، سنّةٌ دينيةٌ لا يمكن التخلي عنها، فهو مناسبة فريدة للمساواة الاقتصادية، والتحقق الاجتماعي لفئة كبيرة من الناس.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج