مدرسة المليونيرات

05 يوليو 2024

المال ليس الوحيد الذي يصعب جمعه، فالعلم والمعرفة لا يقلان صعوبةً (Getty)

+ الخط -

يُقدّر عدد المليونيرات في العالم بنحو مائة مليون. كيف حدث ذلك؟... لن يصعب علينا امتلاك معرفة جيّدة بالطريق إلى المليون الأول مع كلّ هذه المنشورات الإنستغرامية الشارحة باستفاضة، التي سبقتها إليها كتب التنمية البشرية. لكنّ امتلاك المليون نفسه مسألة أخرى. وحين تفتح كتاباً عن الطريق إلى المليون الأول تجده يُثرثِر بلا كلل عن التضحية والاستعداد لمطحنةٍ عمل تُسلّم نفسكَ إليها إن أردت إمساك مليونك الأول بيديك العزيزتَين. الأمر بسيط، يبدأ بالعمل 16 ساعة، مع الكدح والحرث، وتحمّل ما لا يتحمّله الأقران.

هذه وصفة عامة، فأنت أدرى بمجتمعك الذي قد يطحنك وأنت رضيع، ولا يتبقّى منك للطفولة والشباب، وما بعدهما، سوى هيكلٌ مكسوٌّ ببعض الطاقة الظاهرية. فهُم يُكسّرون عظامك في المدرسة، وفي البيت، وفي الشارع. من أين ستشرب حليباً نظيفاً من اليأس وأنت تدور في مكانك؟

يتحقّق النجاح، حسب التعليمات، بالعمل في ثلاث وظائف، أو أيّ قدر ممكن، المهمّ أن تتمّم مدة 16 ساعة في اليوم. هي نصيحة حديثة العهد في مجتمعاتنا مستوحاة من النموذج الأميركي، الذي رَوّج الحلولَ الفردية لمشكلاتٍ سبّبتها المؤسّسات. نظرياً، يمكن لهذه الحالات أن تتحقّق في أميركا، حيث رغم تغوّل سيطرة الرأسمالية لكن يمكن لك، إذا كنت طَفرَة أهلك، أن تُحقّق فعلاً إنجازات عبر التفاني. في دولنا، معظم الوقت، جُلّ ما ستربحه من جهدٍ كهذا لا يتعدّى كثيراً من الأمراض والأعداء، واستغلال المدراء، إذ يُحَبُّ الشّغيل في كل مكان عمل، لكنّه لا يُكافًأ، بل يُستغل حتّى آخر قطرة عرق.

في جميع الحالات، من الصعب أن تعمل في أكثر من وظيفة. تخيّل العمل في وظيفة حكومية، هي إمّا طاحنة بالكاد تلتقط أنفاسك منها مساءً، لتستطيع المداومة نهاراً، أو بليدة تأخذك إلى مدن ميّتة، وأوساط سامّة. فلا ثروة يُنتفَع منها فيها، ولا هناء يغني عما عداه. هناك استثناءاتٌ يمكن فيها للطموحين الخروج بنتيجة من هذا الكدح، وغالباً هم مغامرون، لديهم قدرة هائلة على التخطيط والتحمّل. لكنّ موضوع الأمراض لا يمكن ضمانته، فالأمور عندنا تمشي بالتّيسير. وبالتالي، العمل الكثيف يعني مشكلاتٍ أكثف، وضغطاً عصبياً وتوتّراً، سريعاً ما يُصيب صاحبه بمرض مُزمِن، يُخفّف إيقاعه، ليكتشف أنّه لم يستمتع بشبابه، ولا بماله.

إذا نجا المرء من هذا كلّه، فهو بلا شكّ محاربٌ كبير، لكنّه لن يُعاشَر حينها لأنّه، مع ما مرّ به ونجا منه كلّه، قوّى عضلات القسوة والأنانية والبرود العاطفي، وهي أشياء جعلته ينجو وينجح، لكنّها لم تجعل منه إنساناً سليم النفس. أفضل ما يمكن فعله للمرء الذي يُحبّ نفسه، بعيداً عن حلم المليون، الأول أو المائة، هو العمل بضمير، مع قليل من الطموح المُتحكَّم فيه، حتّى لا يُؤدّي به الى التهلكة وحسد الزملاء، أو وهن الأعضاء. وإذا كان محظوظاً، فجهدُه الذي يفوق المتوسّط سيلاحظه مديرٌ أمين ويكافئه بترقية.

إذا كان يعمل في مهنةٍ حرّة، يمكنه تحقيق نجاح معقول يَبقى إنجازاً بالنسبة إلى أقرانه. ما عدا إذا كان عبقرياً مثل بعض النماذج التي نسمع عنها. لكنّ مشكلة هذه النماذج أنّها تُركّز غالباً على المليونيرات، الذين بدأوا من لا شيء. مع أنّ المال ليس الوحيد الذي يصعب جمعه، فالعلم والمعرفة والإتقان أمور لا تقلّ صعوبةً عن المال.

أن ينجح المرءُ في أن يصبح طبيباً ناجحاً، فعليه امتلاك المقدار نفسه من الحكمة والقدرة، أو كاتباً ذا شأن حقيقي، إلا بكثير من الجهد والصبر. ما من مال في الموضوع ربّما، لكنّ استثمار المرء في ذهنه وموهبته التي لا تدرّ مالاً ولا تُحسّن حالاً، التي لا تتطلّب شخصاً ذكياً ومجتهداً فقط، بل وذا نَفَسٍ استشهادي يُقاتل من أجل قضية خاسرة، أو ربّما يمنح حياته لها رصاصةً في حرب طويلة، جنديّاً طريّاً يقع في معركة كان يمكن أن يكون بطلها، لكنّ الاحتمالات لم تكن في مصلحته، وارتدّت ضربةَ سيفٍ أو شظيةً طائشة لترسله إلى عالم آخر، ليس عليه القلق فيه على ما نتحدّث عنه.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج