خيارات باقية أمام الوجود الفرنسي في أفريقيا

خيارات باقية أمام الوجود الفرنسي في أفريقيا

11 يناير 2024
+ الخط -

أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية، في 2 يناير/ كانون الثاني الحالي، أن السفارة الفرنسية في النيجر مغلقةٌ حتى إشعار آخر، لأنها لا تستطيع القيام بمهامّها الدبلوماسية هناك، بسبب القيود التي فرضها المجلس العسكري، لكنها ستواصل عملياتها من باريس. ويتزامن القرار مع إتمام القوات الفرنسية المنتشرة في النيجر انسحابها، ما يطرح السؤال عن الخيارات الباقية لفرنسا لاستمرار نفوذها الكلاسيكي في القارّة السمراء.

مثّل الوجود العسكري الدائم جانبا مهمّا من العلاقة الفرنسية في منطقة غرب أفريقيا ووسطها، فقد وقّعت الدولة الاستعمارية اتفاقيات تعاون ثقافي وفني وعسكري واتفاقيات دفاع مشترك مع معظم مستعمراتها السابقة في وقت الاستقلال عام 1960. بالإضافة إلى ذلك، تم إرسال مستشارين عسكريين إلى أفريقيا للعمل مع الحكومات المستقلة حديثًا. وقد حدّدت اتفاقيات الدفاع المشترك الإطار الذي جرت من خلاله التدخّلات العسكرية الفرنسية في أفريقيا في فترة ما بعد الاستعمار. ومن خلال هذه الاتفاقيات، وما يصل إلى عشرة آلاف جندي متمركزين أو يشاركون في العمليات العسكرية في مستعمراتها السابقة خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال، نفّذت فرنسا، بين 1964 و2014، ما لا يقل عن 40 تدخّلاً عسكريًا مباشرًا في القارّة. غير أن تسارع الأحداث في المنطقة، وسلسلة الانقلابات التي شملت، أخيرا، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وحالة التململ في تشاد، أوجدت مشكلا حقيقيا لفرنسا وتهديدا واضحا لمصالحها. ولتطرح السؤال بشأن مستقبل التعاطي الفرنسي مع المجال الأفريقي (منطقة غرب أفريقيا ووسطها) الذي لطالما اعتبرته جزءا من إمبراطوريتها.

مع تراجع النفوذ الفرنسي واستيلاء حكومات عسكرية مناوئة لهذا الحضور، وبنائها تحالفات جديدة، تجد الدولة الفرنسية نفسها أمام خياراتٍ محدودة إذا أرادت الحفاظ على ما بقي لها من هيمنة، فإما أن تختار العودة إلى النموذج الغيني لفكّ الارتباط، وهو ما يعني الانسحاب الفرنسي من الدول التي شهدت صعود أنظمةٍ مناوئةٍ لها، ولكن من طرفٍ واحدٍ، مع فرض عقوباتٍ على هذه الدول بشكل ناعم، وهو تقريبا ما تفعله فرنسا حاليا في التعامل مع الوضع في مالي، حيث لم تعد فرنسا في قلب اللعبة، وهي تترجم حالياً بشكلٍ ملموس على أرض الواقع، بداية من تجفيف المعاشات التقاعدية بكل أنواعها (معاش العسكريين، معاش التقاعد)، وصولا إلى وقف المساعدات الإنمائية العامة والتدخّل الإنساني. ورغم أن أسلوب فكّ الارتباط الأحادي، وما صاحبه من عقوباتٍ، قد آتى أكله في حالة غينيا سنة 1958 بالنظر إلى الدور الوظيفي الذي لعبته الدول المجاورة لها في ذلك الوقت، من خلال محاصرة غينيا لصالح فرنسا، فإن ظروف الجغرافيا السياسية مختلفة حاليا لانتشار حالة العداء لفرنسا في دول أفريقية أخرى، مثل النيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، ما سيؤدّي إلى خسارة فرنسا ما تبقى من نفوذها لصالح الدول الكبرى التي تنافسها في المنطقة، مثل الولايات المتحدة وألمانيا والصين وروسيا.

لم تقتنع فرنسا بعد بتغيّر الجغرافيا السياسية في مناطق غرب أفريقيا ووسطها

أما الخيار الثاني فيستعيد أوهام العظمة والعقلية الاستعمارية، ما يعني الإصرار على إعطاء الدروس للدول الأفريقية في كيفية إدارة شؤونها، ومن ثم محاولة فرض أنظمة تابعة عبر التدخّل العسكري مستفيدة من قواعدها العسكرية في المنطقة. إذا أخذنا هذا العمى إلى أقصى حدوده، لا بد أن يؤدّي منطقياً إلى تدخّلاتٍ عسكريةٍ متكرّرة، أو على الأقل إلى سلسلةٍ لا نهاية لها من العمليات الخارجية بقيادة القوات الخاصة، ومن الصعب أن نرى ما هي الأهداف طويلة المدى لسياسة القوة هذه. وفي المناخ الحالي، سيكون ذلك المعادل الدقيق للفشل الذاتي والتورّط في نزاعاتٍ لا يمكن توقّع نتائجها، وحتى حجّة مجابهة التنظيمات الجهادية والجماعات المسلحة لن تكون كافية لتبرير التدخّل العسكري الدائم، ولن تضمن الأمن والاستقرار الذي تبحث عنه الدول الأفريقية، لأن الاستقرار يشترط أساسا، وعلى المدى الطويل، نزع السلاح بشكلٍ فعّال في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتفكيك كل القواعد العسكرية الفرنسية، باعتبارها مصدرا للتوتّر وإثارة المشاعر المعادية.

يظل الخيار العقلاني أن تتوقّف فرنسا عن ممارسة سياسة الهيمنة، وتحاول بناء علاقات دبلوماسية جديدة مع الدول الأفريقية، قوامها احترام استقلال هذه الدول وخصوصياتها الاجتماعية والثقافية، وأن تتوقّف عن فرض تصوّرها السياسي الأحادي لمعنى الاستقرار والأمن، ما يعني التراجع عن منطق التدخّل العسكري، وفرض أنظمة موالية، مهمّتها قهر المواطنين الأفارقة، ومهما بدا هذا الخيار صعبا ومكلفا، ويمسّ بالمصالح الفرنسية نسبيا على المدى القريب، إلا أنه سيكون بداية التأسيس لعلاقات متكافئة وحرّة يستفيد منها الطرفان، وينزع فتيل العداوة التي تصاعدت في المناطق الأفريقية الناطقة بالفرنسية.

تكشف السياسات الفرنسية الحالية، إزاء الوضع في النيجر وغيره، أن فرنسا تراوح بين الخيارين الأول والثاني، ولم تقتنع بعد بتغيّر الجغرافيا السياسية في مناطق غرب أفريقيا ووسطها، ما يعني أنها ستُعاني من مزيد الخسائر، وربما تخرج نهائيا من المنطقة إذا لم تتدارك دبلوماسيّتها الموقف، وتغير سياساتها جذريا.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.