خوف في لبنان من "اليوم التالي"
في ضوء التطورات المتصاعدة، يبدو أن الصراع بين إسرائيل وحزب الله يقترب من نقطة تحوّل حاسمة مع تزايد الاشتباكات على الحدود الشمالية اللبنانية، ما يزيد من احتمالية حرب شاملة إذا لم يجر التوصل الى وقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل. يُنظر إلى هذه المخاطر بعد جرائم إسرائيل المتمادية إرهابا وغطرسة في "مواصي" خانيونس على أنها العليا مقاربة بالأسابيع والأشهر السابقة. من ناحية تشديد الولايات المتحدة على ضرورة التوصل إلى حل دبلوماسي والتوصل الى اتفاقية تجنّب مزيدا من التصعيد، ما يسمح بعودة الأسر اللبنانية والإسرائيلية إلى منازلها. ومن ناحية أخرى، تزداد التوترات بينها وبين حليفتها بشأن تسليم الأسلحة والوضع الإنساني في غزّة.
كلا الطرفين، إسرائيل وحزب الله، قد لا يرغبان بحرب شاملة نظراً إلى التداعيات المحتملة. ولكن يبدو أن أياً منهما غير مستعد للتراجع. الحلّ الدبلوماسي ممكن ومفضّل في تصريحاتهما المختلفة، لكن تصاعد الهجمات على الجبهة وحجم الخسائر وعدم التراجع قد تدفع الأمور نحو الحرب، إذا لم يجر اتخاذ خطوات جديّة لتحقيق التهدئة.
يشعر اللبنانيون بالقلق تجاه المستقبل، بغضّ النظرعن السيناريو الذي سيتحقق. وينبع هذا القلق من تجاربهم مع الصراعات السابقة التي أثرت سلبا على حياتهم اليومية، وعلى اقتصاد البلاد والبنى التحتيّة. حتى في حالة الحل الدبلوماسي، هناك شكوك بشأن مدى فعالية واستدامة أي اتفاق يتم التوصل اليه، وإذا كان يمكن لهذه الاتفاقيات أن تحميهم من التوترات المستقبلية، أو إذا ما كانت ستظلّ مجرّد ترتيبات أمنية مؤقتة لا تعالج الجذور العميقة للصراع. في المقابل، حرب مدمّرة قد تؤدّي إلى تغييرات كبيرة في التركيبة السياسية أو حتى في تقسيم البلاد. يعتمد هذا على القوى الخارجية والداخلية المعنية والقدرة على الحفاظ على الأمن. وقد يكون للفصائل والأحزاب السياسية تأثير كبير على تطوّر الأحداث، بما في ذلك صعوبة محاولات استعادة الاستقرار العام.
إسرائيل وحزب الله، قد لا يرغبان بحرب شاملة نظراً إلى التداعيات المحتملة. ولكن يبدو أن أياً منهما غير مستعد للتراجع
يشعر اللبنانيون بالخوف من "اليوم التالي"، بغض النظر عن تلك الحلول المقترحة، دبلوماسية كانت أو عسكرية. وفي حال توسعة الحرب، من المتوقّع أن تتعرّض البلاد لدمار شامل في البنى التحتيّة (5.7 مليارات دولار عام 2006). والمحتمل أن تتفاقم الأزمات الاقتصادية، ما يزيد من معاناة المواطنين الذين يعانون بالفعل من ظروف معيشية صعبة، تُضاف إليها موجات النزوح الكبيرة داخل البلاد والهجرة خارجها.
وثمّة قلق بشأن إمكانية إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لجموعة العمل المالي (FATF)، الذي تعتبره غير ملتزم بالكامل بمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وقد يواجه مشكلات اقتصادية كبيرة، نتيجة تعليق الدعم العالمي الدولي وتزايد الصعوبات بإجراء المعاملات المالية عبر الحدود (6.4 مليارات دولار)
لا يبدو حزب الله معنيّا بطمأنة اللبنانيين بشأن مستقبل الأوضاع، وما يتعلق بكل الوقائع التي تضع البلد الصغير في"المجهول"، حيث صارت جغرافيا "الأيام التالية" في غزّة ولبنان تشكّل مقدّمات ساخنة لعاصفة تغيير خرائط سياسية في المنطقة، وإعادة تشكيل التوازنات، بانتظار تفاهمات كبيرة تحكم العلاقة في غياب السلام وتنظّمها.
كرّست جبهة "الإسناد" في الجنوب الانقسام بين الحزب وحلفائه من جهة ومعارضيه من جهة أخرى في مواقف ترفض تفرّده بقرار الحرب
بالانتظار، غصّت الضاحية الجنوبية في الأسبوعين الأخيرين بحركة داخلية وخارجية باتجاه الحزب، بهدف استكشاف إمكانية وقف الحرب، من مبادرة جامعة الدول العربية، إلى استقبال الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، والزيارة التي قام بها نائب مدير المخابرات الالمانية، إلى التواصل غير المباشر مع الحزب خلال زيارات آموس هوكشتاين. ويشعر الحزب أن الدول الخليجية بدأت تحوّلا في العلاقات معه، معتدّاً بدوره على الحدود الجنوبية. ويمكن فهم الدخول الألماني على الخط المباشر معه بناء على التنسيق مع واشنطن لإبقاء أرضية التفاوض قائمة إلى مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية.
الدور الألماني عنصر مساعد لتنفيس الاحتقان وشراء الوقت، بانتظار ما تنتهي اليه مفاوضات الهدنة في غزّة التي يربطها الحزب بوقف إطلاق النار في الجنوب، ما سيفرض التزاماتٍ يجري التكيّف معها، وحول إبعاد "قوات الرضوان" عن الحدود بضعة كيلومترات وحلول الجيش وقوات الأمم المتحدة (يونيفيل) مكانها. اتفاق مماثل للذي رعته ألمانيا بين إسرائيل وإيران العام 2000، ونصّ على ترتيبات آمنة للانسحاب الإسرائيلي وما بعده.
يدخل الجميع على خط الإغراءات بالترسيم البرّي بعد الترسيم البحري، وحول العودة إلى استخراج الغاز وتحقيق مكاسب مالية، وإعادة إعمار القرى المهدّمة، وعرض التفاوض مباشرة مع الحزب في غياب رئيس للجمهوية. وتشارك إيران في مفاوضات السلام في تماسٍّ مع الولايات المتحدة وأوروبا.
لا يبدو حزب الله معنيّاً بطمأنة اللبنانيين بشأن مستقبل الأوضاع، وما يتعلق بكل الوقائع التي تضع البلد الصغير في"المجهول"
قلق آخر في لبنان من إعلان حزب الله عن "انتصار إلهي آخر"، قد يثير توتّراتٍ داخلية وإقليمية، ويوثر على الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد، بالرغم من تصريحات الحزب عن أنه "بالنسبة لليوم التالي ما بعد الحرب هو يوم لبناني بامتياز، يحدّده أهل لبنان والمعنيّون بهذه المواجهة تحت سقف حماية السيادة وتعزيز قوة الردع في لبنان". لكن اللبنايين يخشون من استثمار الحزب للحرب سياسيا، ومن أن يكون "اليوم التالي" هو يومه بامتياز، وليس قراراً لبنانياً يحدّده جميع اللبنانيين والمعنيين بحماية السيادة وتعزيز قوة الدولة وتماسكها، ما يزيد من الضغوط على حكومة تصريف الأعمال اللبنانية.
كرّست جبهة "الإسناد" في الجنوب الانقسام بين الحزب وحلفائه من جهة ومعارضيه من جهة أخرى في مواقف ترفض تفرّده بقرار الحرب، وبات عالقا فيها. فيما تحقّق إسرائيل أهدافها من دون توسعة الحرب، ومن خلال إقامتها منطقة عازلة، بقوة الأمر الواقع، تحوّلت منطقة مدمرة/ محروقة وخالية من سكّانها. يرى المعارضون أن قرار الحزب بفتح الحرب جاء خدمة لمصالح إيران الإقليمية، من دون الرجوع إلى البرلمان أو الحكومة كما حصل في العام 2006. وبالتالي، هو الذي، قد يفرض سيطرته الكاملة على الواقع السياسي بعد انتهاء الحرب، وعلى الواقع الإقليمي في ظل النزاعات الجيوسياسية الكبرى. إذن "المقاومة ماضية في ما بدأته حتى تصل الى الهدف الذي تطمح اليه في لبنان وغزّة" (حسن نصرالله)، ولا يمكن لأي أخطار وتحدّيات أن تجعلها تتراجع عن موقفها وثباتها في هذه المعركة، حتى في جغرافيا لبنانية تتبلور أكثر في شكلٍ تعدّدي ومتناقض، وما يمكن أن يمثل التغييرات التي قد تحصل في بنية الصيغة اللبنانية ذاتها. ليس لأن هذه الأزمات لم تكن جزءاً أساسياً أو هامشياً من التحوّلات التي عاشتها القضية اللبنانية، والحرب عاملٌ من التحوّلات التي تصيب كل مجتمع في التاريخ، وغالبا ما كانت تحصر في إطار النظام العام، ولا تدخل الى عمق الواقع لتفكّكه وتدمّره. مع ذلك، هذا لا يعني أن لبنان قد يزول بالكامل سياسيا (جان إيف لودريان). لكن قد يدخل في حالة من مجهول عام، ولا يعرف في أي إطارٍ ستستبطن تلك الانقسامات، حين يفرض الحزب واقعا ثقيلاً على اللبنانيين بشكل صارم أكثر.