خريطة الطريق الفلسطينية بعد 7 أكتوبر

22 يناير 2024
+ الخط -

بدأت أخيرا جلسات محاكمة الاحتلال الصهيوني في محكمة العدل الدولية لأوّل مرّةٍ استنادًا إلى القضية التي قدمتها جنوب أفريقيا، كما يشهد العالم تصاعداً كبيراً في حجم التأييد الشعبي لقضية فلسطين وحقوق شعبها الأصلي، الذي يترافق مع تصاعدٍ آخر في مسار فضح طبيعة الاحتلال الصهيوني، وجرائمه المستمرّة والدورية بحقّ أرض فلسطين وشعبها، منذ نكبة 1948.
تداعيات هذه المؤشرات المستقبلية واسعةٌ وعريضةٌ، والأهمّ نوعيةٌ، إذ قد تشهد السنوات القادمة تحولاتٍ جذريةً في تعامل شعوب العالم ودوله مع الاحتلال، بعد سنواتٍ من الدعم غير المحدود، والحماية القانونية والسياسية، بل قد تطاول هذه التحولات الولايات المتّحدة ذاتها، خصوصاً في ظلّ تراكم تداعيات دعم أميركا غير المحدود للاحتلال الصهيوني على تحالفاتها الدولية، والأهم على صراعاتها الدولية المباشرة منها، وغير المباشرة، وبالتالي تأثيراتها على الاستراتيجية الأميركية، وعلى مكانتها الدولية، إلى جانب تداعياتها على الداخل الأميركي نفسه.
لكن وبعيدًا عن التداعيات الدولية المحتملة، ماذا بشأن التداعيات الفلسطينية الداخلية؟ هنا تتنوّع القراءات والتقديرات، بل وتتنوع الإرادات، إذ تلعب إرادة العامل الداخلي دوراً حاسماً في تحديد طبيعة هذه التداعيات وجوهرها. طبعا ينقسم العامل الداخلي إلى ثلاثة أطر: القوى السياسية الفلسطينية (الفصائل والحركات السياسية والسلطة الفلسطينية ومنظّمة التحرير الفلسطينية)، والقوى الأهلية والمجتمعية داخل فلسطين وخارجها، والشارع الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده.

على صعيد القوى السياسية الفلسطينية، يصعب تلمس تلك التباينات السياسية اليوم، على الرغم من شبه تطابق معظم البرامج السياسية الفصائلية

لكن وقبل الدخول في التباينات الفلسطينية، لا بدّ من الإشارة إلى إجماعٍ فلسطينيٍ واضحٍ على المهام الراهنة، من وقف العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، والقدس والضفّة الغربية، ومجمل الأرض الفلسطينية، وشعبها الأصلي، إلى إنهاء الحصار الصهيوني اللاإنساني على قطاع غزّة المفروض منذ قرابة 17 عامًا، وصولًا إلى إدخال المساعدات الإغاثية والطبية العاجلة إلى قطاع غزّة من دون قيدٍ أو شرطٍ، وبكمّياتٍ كافيةٍ.
في مقابل هذا الإجماع الفلسطيني المطلوب اليوم، نجد خلافاً مستتراً يتعلق باليوم التالي، أي اليوم الذي يلي وقف العدوان، ذلك اليوم الذي يعلق كثيرٌ من الفلسطينيين آمالاً عريضةً عليه، تتعلق بالتحرير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، منطلقين من كثرة الحديث الدولي عن ضرورة استعادة مسار حلّ الدولتين وفق مسارٍ سياسيٍ تفاوضيٍ حثيثٍ وجديٍ، إذ لا تخلو بعض تلك التصريحات من نبرةٍ جديةٍ تعكس إرادة بعض القوى الدولية لممارسة أقصى درجات الضغط على الاحتلال للقبول بهذا المسار.
على صعيد القوى السياسية الفلسطينية، يصعب تلمس تلك التباينات السياسية اليوم، على الرغم من شبه تطابق معظم البرامج السياسية الفصائلية، إذ تتبنّى في معظمها حلّ الدولتين كرؤيةٍ سياسيةٍ تحرريةٍ؛ بما فيها حركة حماس، فيما تتباين في تحديد أدواتها التحرّرية، من حصرها بالنضال السلمي، إلى حصرها بالنضال المسلّح/ العنيف، وصولاً إلى المزج بينهما. لكن وعلى الرغم من شبه التطابق في الرؤى السياسية الفصائلية، نلحظ تجنب الخوض في هذا الشأن من معظم تلك القوى، يعود ذلك نسبيًا، برأي الكاتب، إلى الموقف الشعبي الفلسطيني من هذه الرؤية، إذ يعارض قسمٌ كبيرٌ من شعب فلسطين الأصلي خيار حلّ الدولتين، حتّى لو طبق كاملاً وفق القرارات الدولية، لسببين رئيسين: الأول عدم تضمنه استعادة الحقوق الفلسطينية كافة، وفي مقدمتها حقّ العودة، وحق تقرير المصير خصوصًا في الأراضي المحتلة عام 1948. والتمدد الاستيطاني غير الشرعي، وممارسات الاحتلال اليومية التي جعلت من تطبيق حلّ الدولتين أمرًا شبه مستحيلٍ، وفق تقارير دوليةٍ كثيرةٍ.

يبدو التباين الفلسطيني الحقيقي كامناً في التباين بين القراءة الفصائلية والرغبة الشعبية في التحرر الكامل والشامل

بناءً عليه، يبدو التباين الفلسطيني الحقيقي كامناً في التباين بين القراءة الفصائلية والرغبة الشعبية في التحرر الكامل والشامل، والعودة إلى كلّ القرى والبلدات التي هجروا منها، وهو ما تحققه دولة فلسطين الواحدة. أيضًا؛ تتبنى بعض الفصائل والحركات السياسية الفلسطينية خيار الدولة الواحدة، بتبايناتها المختلفة، وأشهر تلك الحركات حركة الجهاد الإسلامي. في المقابل، نلحظ انقسامًا سياسيًا نسبيًا في مواقف القوى المجتمعية والأهلية الفلسطينية، على الرغم من عدم طرح أيٍّ منها مشروعاً سياسياً واضحاً، نظرًا لطبيعتها الأهلية غير السياسية، وعلى الرغم من طبيعة نشاطها السياسي، أو للدقة نشاط معظمها. إذ تتحاشى بعض المنظمات والقوى الأهلية والمجتمعية طرح أو التلويح بحلّ الدولتين لاعتباراتٍ عديدةٍ، أهمّها تجنب الصدام مع داعميها الدوليين، سواء كانوا منظمّاتٍ دولية؛ NGOs، أو دولًا. كما تتجنبها لتفادي الخلافات الداخلية بين أبرز ناشطيها، من مؤيدي حلّ الدولتين وحلّ الدولة الواحدة.
من ذلك كلّه، نلحظ هروبًا فلسطينيًا من نقاش الرؤية السياسية، وما يرتبط به من نقاش الآليات التحررية، بغرض تحاشي الصدام مع رغبات الشارع الفلسطيني، خصوصًا في ظلّ تصاعد الروح النضالية، والآمال الشعبية بعد عملية طوفان الأقصى.

توضح التجارب التاريخية السابقة أنّ ما يعرف باليوم التالي هو عملياً امتدادٌ متناسقٌ لليوم الحالي، من دون فواصل زمنيةٍ واضحةٍ

يثير التردّد الفلسطيني في الخوض بهذه المسألة قلقاً بالغاً من تبديد بعض مكتسبات المرحلة الراهنة، إذ توضح التجارب التاريخية السابقة أنّ ما يعرف باليوم التالي هو عملياً امتدادٌ متناسقٌ لليوم الحالي، من دون فواصل زمنيةٍ واضحةٍ، أو حتّى سياسيةٍ، وعليه، تصعب معالجة هذه المسائل والخلافات السياسية والبرامجية في الحيّز الفاصل بين مرحلتين افتراضيتين، هما مرحلة العدوان وما بعده، سواء انطلق المسار السياسي بضغطٍ دوليٍ حقيقيٍ لحلّ القضية الفلسطينية، أو عبر طرحه شعبيًا على المستوى العالمي، عبر الحركات والنشاطات التضامنية الحاشدة حول العالم، ومن خلال المنظمّات والهيئات المتضامنة مع قضية فلسطين وشعبها، التي باتت اليوم لاعباً رئيسياً، وقد تلعب دوراً حاسماً بهذا الشأن مستقبلاً.
لذلك كلّه؛ يعتقد الكاتب أن نقاش وطرح الرؤية السياسية، أو ما يعرف بخريطة الطريق الفلسطينية، أمرٌ ضروريٌ ومهمٌ منذ اليوم، على التوازي مع النضال والعمل على وقف العدوان، وإنهاء الحصار، وإدخال شتى أنواع المساعدات الغذائية والطبية والخدمية، وبكمياتٍ كبيرةٍ وكافيةٍ؛ إن لم نقل فائضةٍ عن الحاجة. كما يجب أن يشمل هذا النقاش مجمل المستويات الفلسطينية، السياسية منها والأهلية والشعبية، كما يجب علينا الاتّفاق على محدداتٍ ناظمةٍ منذ الآن، تحدد طبيعة الخطاب الفلسطيني الرسمي منها والفئوي، بما فيها الشعبي، تعكس حقوق الشعب الفلسطيني كافّةً، من العودة وتقرير المصير إلى التحرر وإقامة الدولة، أي تركز على الحقوق بدلاً من الرؤى، الأمر الذي يمنح شعب فلسطين وقواه وقتاً كافياً لصوغ رؤيةٍ سياسيةٍ واضحةٍ، يعتقد كاتب المقال أنها متضمنةٌ في مشروع تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة، لجميع مواطنيها الأصليين، والحاليين المتحررين من الأيديولوجية الصهيونية العنصرية والإرهابية، التي مارست وتمارس إبادةً جماعيةً بحقّ شعب فلسطين الأصلي.