خدعة الحديث عن الدولة الفلسطينية حلّاً

يعزو تود كثر الحديث في الأيام الأخيرة عن حلّ الدولة الفلسطينية الموعودة، والمفارقة أنه حديث يأتي من الدول الغربية المشاركة في حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني. من بريطانيا، سبب كل الشرور في العالم العربي وأول مسؤول عن مأساة الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 130 عاما، ومن الولايات المتحدة المسؤولة الأولى عن كل الكوارث التي حلت بمنطقة الشرق الأوسط من العراق إلى ليبيا مرورا بفلسطين منذ أكثر من سبعة عقود، ومن فرنسا التي دعا رئيسها، بعد هجوم 7 أكتوبر، إلى إنشاء حلف عسكري دولي لاستئصال حركة حماس. ووجد هذا الحديث صدى له داخل العواصم العربية نفسها التي دأبت أنظمتها المستبدة على استغلال القضية الفلسطينية لتحقيق أجنداتها المتواطئة مع الكيان الصهيوني.

لم تملِ الحديث وتوقيته مواقف قانونية أو سياسية، وأبعد من ذلك لا يعكس التفاتة إنسانية من هاته القوى الغربية التي ما زالت تدعم الحرب الإجرامية الإسرائيلية على سكّان غزّة عسكريا وماديا ولوجستيكيا ودبلوماسيا وإعلاميا وقانونيا، وإنما أملتْه خططها الشيطانية لإنقاذ حليفتهما إسرائيل بعدما غرق جيشها في وحل غزّة، وأيضا لامتصاص غضب الرأي العام العالمي المتنامي من جرائم إسرائيل اليومية ضد المدنيين العزّل في غزّة المحاصرة والمدمّرة، وترميم صورة إسرائيل في الغرب، بعدما بدأت تتكشّف حقيقة الخدع والأساطير التي أقامت عليها كيانها الاحتلالي.

لو كانت هذه العواصم جادّة فعلاً في حديثها عن قيام دولة فلسطينية لبادرت بالاعتراف بها قبل هذه الحرب الإجرامية بسنوات، فهناك نحو 139 دولة تعترف بالدولة الفلسطينية العضو المراقب داخل هيئة الأمم المتحدة، والدول التي تتحدّث اليوم عن الاعتراف بها هي التي تعرقل علانية أو داخل الكواليس حصول الدولة الفلسطينية على العضوية الكاملة، دولة مستقلة، داخل الأمم المتحدة. واشتراطها الاعتراف بها بعد وقف الحرب يؤكّد عدم جدّيتها، بل ويكشف عن الخدعة المبّيتة من وراء هذا الحديث، وخصوصا أنه سبق للدول نفسها أن وعدت مرّاتٍ بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وأخلت بوعودها. حدث ذلك عام 1993 حين التوقيع على اتفاقيات أوسلو التي حدّدت سقفاً زمنياً للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة عام 1999، شرط اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل، كما تكرر وعد العواصم الغربية نفسها بالاعتراف بدولة فلسطين عام 2003، في إطار ما كان قد سمّيت "اللجنة الرباعية" التي كانت تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، مقابل وقف الفلسطينيين انتفاضتهم، وقد مضى أكثر من عقدين على ذلك الوعد الكاذب، أوقف الفلسطينيون انتفاضتهم واستمرّت إسرائيل في الاستيطان والتوسّع في الاحتلال، واعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، وضغطت على دول أخرى للاعتراف بها ونقل سفاراتها إليها، ونسي العالم شيئاً اسمُه الدولة الفلسطينية التي لم يعد لها وجود داخل مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي رسمت معالمَه الجديدة "اتفاقات أبراهام" المشؤومة، إلى أن جاء "طوفان الأقصى" ليربك هذه الخطط الجهنمية، ويعيد خلط الأوراق. لذلك، العودة اليوم إلى الحديث عن قيام الدولة الفلسطينية ممّن كانوا يخطّطون لمحو آثارها ليس بريئا، وإنما هو خدعة واضحة للعيان تفضح أغراضها أسباب إثارة الموضوع في هذه اللحظة بالذات.

السبب الأول، إنقاذ إسرائيل من الفشل الذي منيت به حربها الإجرامية، بعدما غرق جيشها في وحل غزّة ورمالها، وسقطت كل خططها العسكرية وفشلت في تحقيق أيٍّ من أهدافها سواء السياسية أو العسكرية أو الاستراتيجية. وفي المقابل، منيت بأكثر من هزيمة، سوف تتكشّف ملامحها بعد انتهاء حربها على غزّة، سواء على المستوى الاستخباراتي أو الأمني أو العسكري، وفقد جيشها هيبته وما كان يدّعيه من أخلاق، وأصبح قادته وعناصره مهدّدين بالملاحقة القضائية في العالم بسبب الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبونها في غزّة والضفة الغربية ضد الأطفال والنساء والمدنيين العزّل الأبرياء.

طوفان الأقصى أعاد ثقة شعوب المنطقة في الخطاب الديني بعد الانتكاسات التي عرفتها تجارب الإسلام السياسي في أكثر من دولة عربية

السبب الثاني، محاولة احتواء تنامي وعي الرأي العام الغربي الذي بدأ ينقلب ضد ساسته ويتهمهم بالتواطؤ مع إسرائيل في جرائمها. وفي حالات أخرى، أصبح هذا الرأي العام ينتقد صرف حكوماته أموال دافعي ضرائب بلدانهم لدولة إسرائيل الاستعمارية التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية. وفي دولة مثل الولايات المتحدة، تهدف إدارة الرئيس جو بايدن من حديثها الزائف عن قيام دولة فلسطينية إلى استعادة ثقة جزء واسع من الرأي العام الأميركي، في أوساط العرب والمسلمين والديمقراطيين، الذين باتوا يشكّلون مصدر تصويت عقابي قد يحول دون إعادة انتخاب بادين في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

السبب الثالث لهذه الحماسة المتأخرة للدعوة إلى الاعتراف بدولة فلسطينية حفظ وجه ماء الأنظمة العربية المتواطئة فعلاً أو بسكوتها، مع أكثر الحروب الإسرائيلية الغربية إجراما في حقّ الفلسطينيين، وإنقاذها من تداعيات هذه الحرب مستقبلاً، فطوفان الأقصى أعاد ثقة شعوب المنطقة في الخطاب الديني بعد الانتكاسات التي عرفتها تجارب الإسلام السياسي في أكثر من دولة عربية، سواء بسبب أخطاء ذاتية أو بفعل الثورات المضادّة التي قادتها وموّلتها أنظمة عربية هي نفسها التي سارعت إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وتعرب اليوم عن ترحيبها بهذه الدعوات الغربية المنافقة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، فهذه الأنظمة تخاف من استعادة الشعوب العربية مبادرة استئناف ثوراتها المُجهضة من أجل تقرير مصيرها كما حصل عام 2011 إبّان ثورات "الربيع العربي".

وفي هذا السياق، يأتي السبب الرابع، وهو، في تصوري، السبب الاستراتيجي والأهم، بالنسبة لمن يروجون الآن حل الدولة الفلسطينية، وهو استئناف قطار التطبيع الإسرائيلي العربي حتى تنضمّ إليه أنظمة عربية أخرى، وفي مقدمتها السعودية المرشّحة القوية لركوبه في اليوم التالي بعد توقف الحرب، فقد كان أحد شروط الرياض للالتحاق به، قبل الحرب، إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، وحديث لندن وواشنطن وباريس اليوم عن حلّ الدولة الفلسطينية موجّه بالأساس لمغازلة النظام السعودي، تمهيدا لالتحاقه بقطار التطبيع. وأهمية هذا السبب تكمن في أنه يخدم مصلحة إسرائيل والدول الغربية الداعمة لها والدول العربية المطبّعة وتلك المتواطئة معها، ويكرّس الكيان الصهيوني، كما أثبتت ذلك هذه الحرب، قاعدة عسكرية واقتصادية متقدّمة لفرض هيمنة الغرب الإمبريالي على المنطقة، واستمرار نهب مقدّراتها وتفقير شعوبها.

لا يُلدغ المؤمن من الجُحر مرّتين، فما بالك إذا كان المؤمن مقاوماً ومجاهداً وفدائياً ومقاتلاً، وما بالك إذا كان اللدغُ مستمرّا

تبعا لكل ما سبق، الحديث عن الاعتراف بدولة فلسطينية فيما يباد الفلسطينيون يوميا ويموتون بردا وجوعا أمام مرأى العالم وسمعه، مجرّد خدعة مفضوحة، لأن العواصم التي تروّج هذا الحديث هي نفسها التي عرقلت قيام الدولة الفلسطينية، كما أن الوضع القائم الذي فرضه الاحتلال على الأرض على مر العقود الماضية، وبدعم من هذه العواصم الغربية، لا يسمح بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. ما يفضح هذه الخدعة تصريحات الساسة الإسرائيليين الصريحة والمستفزّة وكلها ضد قيام دولة فلسطينية، بل وضد بقاء الفلسطينيين فوق أرضهم، ولا يمكن توقّع أن يضغط أصحاب هذه الدعوة على حكّام إسرائيل المتطرّفين لقبوله، وهم الذين فشلوا حتى الآن، أو لم يرغبوا أصلا، في الضغط عليهم لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنونها ضد الفلسطينيين منذ أربعة أشهر، وقد تجاوز عدد ضحاياها مائة ألف ما بين شهيد وجريح ومفقود، أغلبهم من النساء والأطفال، وأكثر من مليون ونصف مليون باتوا مهجّرين ومشرّدين.

وأخيرا، الشروط التي يضعها أصحاب هذه الخدعة على الفلسطينيين، من خلال فرض وصايتهم القبلية على الشعب الفلسطيني، والتدخّل في شؤون دولته الموعودة، حتى قبل أن تقوم لها قائمة، بتحديد من يحقّ له أن يحكمها ويسيّر شؤونها، فهل هم يريدون دولة للفلسطينيين أو فقط فتح ملجأ كبير لهم يضعونه تحت وصايتهم ومراقبتهم وتصرّفهم؟ لقد أثبت الشعب الفلسطيني الذي قدّم تضحيات جسيمة طوال الشهور الماضية أنه أذكى من أن تنطلي عليه مثل هذه الخدع السخيفة، فهذا الشعب علّم العالم معنى التضحية والصمود والمقاومة، وبين أبنائه من النساء والرجال من لن يقبلوا خيانة شعبهم، ومن لن يقبلوا تمرير هذه الخدعة، فالمؤمن لا يُلدغ من الجحر مرّتين، فما بالك إذا كان المؤمن مقاوما ومجاهدا وفدائيا ومقاتلا، وما بالك إذا كان اللدغُ مستمرّا ومن الجحور نفسها منذ قرن وثلاثة عقود هي عمر التآمر البريطاني الصهيوني الأميركي الإمبريالي ضد فلسطين وشعبها المنكوب!

الدولة الفلسطينية هي الحل، وهي آتية لا محالة، سيقيمها الفلسطينيون، وكما كان يقول الشهيد ياسر عرفات "يرونها بعيدة .. ونراها قريبة .. وإنا لصادقون".