حينما يتّسع الخرق في إسرائيل على الراتق
لم تعد إسرائيل قادرة على حسم أي معركة عسكرية تخوضها ضد المقاومة؛ في غزّة، وفي جنين، وفي جنوب لبنان. ولم يعد باستطاعتها إيقاف سيل العمليات البطولية التي تتعرّض لها يوماً بعد يوم، في الداخل، بل وحتى على الحدود مع مصر. بل ربما لم يعد بإمكان إسرائيل نفسها أن تحصي عدد المرّات التي فشل فيها جيشها وأجهزتها الأمنية كافة في إخضاع جنين، تلك البقعة الصغيرة مساحة، الكبيرة مكانة وتاريخاً، لكن الماضي والتاريخ يشهدان أن جنين كانت وما زالت وستبقى، شوكة في حلق الاحتلال حتى زواله.
يقول القائد السابق للمنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي، اللواء جادي شمني: "وصلت جنين إلى مستوى من القدرة يفرض على الجيش الإسرائيلي التفكير والعمل، فالقوات لم تتفاجأ بوجود عبوات ناسفة في المنطقة، فهي تحدُث كل مرة، لكن الفلسطينيين نجحوا هذه المرّة". ويقول رئيس جهاز الأمن القومي الإسرائيلي، تسحي هانجبي: "أصبحت جنين بؤرة إرهاب، ورفعت السلطة الفلسطينية أيديها عنها واختفت، ولم تعد موجودة هناك، والمعركة ليست سهلةً على الإطلاق".
لا تقدّم مثل هذه الشهادات التي تصدر عن قادة الاحتلال السياسيين أو العسكريين جديداً لنعرف مكانة جنين، ولا حجم التهديد الذي تسبّبه لإسرائيل، كذلك فإن تلك التهديدات والتصريحات الجوفاء التي يطلقها قادتهم ضدّها لم تعد تُقنع أحداً، لا من العرب، ولا الجمهور الإسرائيلي. فما قاله وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، في ما حدث في جنين، أن القوات الإسرائيلية "قامت بعمل بطولي، ولن يجد الإرهاب مهربا يلجأ إليه... وإسرائيل ستنفذ عملياتها بلا مساومات، وسوف نصل إلى كل إرهابي"، وما قاله المتحدّث باسم جيش الاحتلال أن "الجنود الإسرائيليين أنهوا المهمة بنجاح"، وما يهدّد به الوزيران، بن غفير وسموتريتش، من حاجة إسرائيل لعملية واسعة... هذه التصريحات كلها أصبح الجميع يعلمون أنها خالية من أي صدقية، وأنها فرقعات للاستهلاك المحلي فحسب، فأي نجاح يتحدّث عنه الجيش الإسرائيلي في ظل إعلان إصابة ثمانية جنود في العملية، وإيقاع أضرار جسيمة أو متوسّطة بسبع مركبات عسكرية، واضطراره إلى استمرار المواجهة تسع ساعاتٍ متواصلة لتخليص جنوده. ومن الضروري، حتى تكتمل الصورة، أن نضع في الاعتبار أن الجيش الإسرائيلي لا يسمح بتداول كل المعلومات، وأن الخسائر المعلنة لا تعبّر بالضرورة عما مُنيت به القوات الإسرائيلية، ويُرجّح أن تكون أكبر مما أعلن، كذلك لا يخفى أن الجيش هناك لا يعطي أرقاماً حقيقية لما تكبّده من خسائر، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بالعنصر البشري.
ما حدث في جنين، رغم سقوط شهداء فلسطينيين، كان مذلّاً لإسرائيل، وقد عكست بعض عناوين الصحف هذا الشعور
من الواضح أن ما حدث في جنين، رغم سقوط شهداء فلسطينيين، كان مذلّاً لإسرائيل، وقد عكست بعض عناوين الصحف هذا الشعور؛ فتحت عنوان "الاحتفال بغنائم الجيش الإسرائيلي: البدء في مسيرة الانتصار في جنين"، تحدّثت صحيفة معاريف عن احتفال الفلسطينيين بما فعلوه بالجيش الإسرائيلي، وعرض الخبر مقطعاً مصوّراً لفلسطينيين يجوبون المخيم ببعض ما غنموه من مخلفات عسكرية إسرائيلية. وأظهرت تفاصيل الأخبار ما يؤكّد فشل العملية؛ فقد كان الجيش يحاول اعتقال بعض المطلوبين الفلسطينيين في مخيم جنين من خلال قوة من المستعربين، ظناً أنها عملية اعتيادية ستمر من دون عقبات، غير أن القوة الإسرائيلية انكشفت وفوجئت بإطلاق نار كثيف تجاهها، وتفجير عبواتٍ ناسفةٍ في مركباتها في أثناء خروجها، ومن ثم أصبحت العملية أكثر تعقيداً، حيث اضطرّت قوات الجيش إلى التدخل لإنقاذ المستعربين في عمليةٍ استمرّت تسع ساعات، وتدخلت المروحيات الإسرائيلية، وأطلقت نيرانها من الجو على المسلّحين الفلسطينيين.
برّر محللون إسرائيليون ما حدث في جنين، وتنامي قوة المسلّحين الفلسطينيين في جنين وباقي مدن الضفة الغربية بأخطاء الحكومات الإسرائيلية التي أدّت إلى إضعاف السلطة الفلسطينية. ويقول الصحافي الإسرائيلي باراك رافيد: "إن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تمّ إضعافها بشكل ممنهج على يد حكومات نتنياهو المتعاقبة، بما فيها حكومته الحالية، في مقابل زيادة قوة حركة حماس في غزة"، وهو ما يشير إلى أهمية الدور الأمني الذي تقوم به السلطة الفلسطينية لصالح إسرائيل، والذي كان يقلل من خطورة المسلحين الفلسطينيين، ويقي الاحتلال من صعوباتٍ كثيرة لا يستطيع معالجتها.
نحن أمام وضع أصبح الإسرائيليون فيه مدركين أن المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية تطوّر نفسها بسرعة كبيرة
لكن مصائب إسرائيل لا تأتي فرادى؛ فالعمليات الفلسطينية البطولية أصبحت أمراً معتاداً، تؤرّق إسرائيل، وتفتح عليها جبهات جديدة كل يوم؛ فلم يكد فشل الجيش في جنين يمضي، حتى استفاقت إسرائيل صباح اليوم التالي على عمليةٍ في مستوطنة عيلي، قتل فيها مقاومان فلسطينيان أربعة مستوطنين وأصابا أربعة آخرين، ولم ينته ذلك، حتى وجد الإسرائيليون أنفسهم أمام تظاهراتٍ كبيرة ضد السلطات الإسرائيلية في الجولان المحتل، وقعت فيها إصاباتٌ بين المتظاهرين، وبين الجنود الإسرائيليين كذلك. دفع هذا الفشل المتوالي، وهذه الجبهات المتعدّدة، رئيس الإذاعة الإسرائيلية السابق، يوني بن مناحيم، إلى نشر كاريكاتور فلسطيني ساخر على صفحته في "تويتر"، يصور نتنياهو وقد أصيب إصابات بالغة، وأعياه التعب، وهو يحاول سد الخروق التي يطل منها المقاومون الفلسطينيون، والمنتشرة حوله في كل مكان في خريطة فلسطين، فلا يستطيع.
نحن أمام وضع أصبح الإسرائيليون فيه مدركين أن المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية تطوّر نفسها بسرعة كبيرة، وأنها تسير على خطى نظيرتها في غزّة وفي الجنوب اللبناني. وقد عبّر بن مناحيم عن ذلك، في مقال له تحت عنوان "جنوب لبنان في الضفة الغربية"، رأى أن الفلسطينيين أصبح في مقدورهم تبنّي أساليب جديدة تستهدف نقاط ضعف الجيش الإسرائيلي، وأن ما يحدُث في الضفة الغربية يذكّر بما كان عليه الحال في الانتفاضة الثانية، من استخدام عبواتٍ ناسفةٍ كبيرة تفوق 20 كغ فُجِّرَت عن بعد باستخدام الهاتف الخلوي، وأنهم يلجأون إلى تكتيكاتٍ تتشابه مع ما يقوم به حزب الله في الجنوب اللبناني، وأن الوضع يفرض على القادة السياسيين توجيه الجيش للقيام بضربة عسكرية ضد الحركات الفلسطينية المسلّحة في الضفة الغربية، من أجل استعادة قوة ردعه التي لا تعرفها الأجيال الحالية من الشباب الفلسطيني، ممن لم يختبروا قوة الجيش الإسرائيلي، وأن على الجيش استعادة المدن الرئيسة التي أصبحت مراكز نشاط كبير للمنظمات الفلسطينية التي تكسب كل يوم أرضاً جديدة في الضفة، في مقابل ضعف السلطة الفلسطينية المتزايد. ويقول بن مناحيم إن حكومة ليبيد/ بينيت السابقة أخطأت أيضاً حينما لم تتصرّف بقوة ضد الحركات المسلحة في شمال الضفة، لأن ذلك أدّى إلى اتّساع نشاطهم ليشمل وسط الضفة وجنوبها، وصار إطلاق النار على حواجز الجيش الإسرائيلي، ودورياته، وعلى المستوطنين، أمراً اعتيادياً يحدُث يومياً، وذلك كله يُنذر بالطبع بسقوط السلطة الفلسطينية.
غالبية الفلسطينيين لم يعُد لديهم قناعة بالعمل السياسي، و71% منهم يؤيدون إنشاء جماعاتٍ مسلحةٍ
ولكن من الواضح، طبقاً لرأي بن مناحيم، أن إسرائيل متردّدة بشأن إقدامها على عملية واسعة في الضفة الغربية، خوفاً من أن تؤدّي إلى اندلاع قتال جديد مع قطاع غزّة على خلفية ما نقل من خلال المخابرات المصرية، أن "حماس" هدّدت بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام عمل إسرائيلي بهذا الشكل، كذلك تخشى إسرائيل من امتداد الأعمال التي تصفها "إرهابية" إلى المدن الكبرى في الداخل الإسرائيلي، وفي أنحاء الضفة الغربية بالطبع.
يتزامن ما سبق كله مع استطلاع رأي فلسطيني أظهر أن غالبية الفلسطينيين لم يعُد لديهم قناعة بالعمل السياسي، وأن 71% منهم يؤيدون إنشاء جماعاتٍ مسلحةٍ، مثل عرين الأسود، وكتائب جنين، كذلك يرفض 86% منهم اعتقال أيٍّ من أعضاء هذه الجماعات. والمفارقة اللافتة هنا أن صحيفة معاريف نشرت، في يوم عملية جنين، تصوّراً عما يمكن أن تكون عليه التركيبة السكانية لإسرائيل في عيدها المئوي عام 2048، تنبأ بأن سكّان إسرائيل حينها سيناهزون 16 مليوناً، غير أن الفشل المتتالي لجيشها، الذي لا تعترف أجيال الشباب بهيبته، والذي لم يعد قادراً في أي مرّة على حسم معاركه ضد المقاومة، ولا يتمكّن جنودُه "المدرّبون تدريباً عالياً" من مواجهة شرطي مصري محدود التدريب يدحض ذلك. قد يقول قائل إن ذلك التصوّر المنشور عن تركيبة إسرائيل السكانية قد تنقصه جملة واحدة من قبيل "هذا إن كانت إسرائيل موجودة في ذلك الوقت"، تتناسب مع هشاشة الاحتلال الظاهرة، وتصاعد الأمل في المقاومة بعد فقدان الأمل في النظام العربي الحالي.