حماس تفوز أخلاقياً... والحل الوحيد في فلسطين

30 نوفمبر 2023
+ الخط -

ما إن بدأت الحرب على غزّة، وأعلن قادة دولة العدو أهدافهم في اجتثاث حركة حماس، وعدم التفاوض معها، هادفين إلى تدمير غزّة، وتهجير أهلها إلى سيناء، حتى أعلنت "حماس" ضرورة إيقاف العدوان والبدء بالتفاوض بخصوص الأسرى لديها ولدى العدو.

تجاهل نتنياهو وعصابته ذلك، وشنّوا عدواناً همجياً ظلامياً على غزّة، وطاول القتل عشراتٍ من الأسرى الصهاينة، ورفضوا كل مبادرات التفاوض، ولكن تراكم الضغوط على تلك العصابة، من أهالي الأسرى، ومن الأميركان، ومن جهاتٍ دوليةٍ كثيرة، وشعور الجيش الإسرائيلي بضرورة إعادة التموضع وفشله في ما هَدفَ إليه، حتى وافق على الهدنة.

المجازر والدمار الذي قام به جيش دولة الاحتلال، والأكاذيب عن قتل "حماس" الأطفال من قبل، أَسقطَت كل السردية الصهيونية، لتعود الحكاية الأصلية، وأن فلسطين تحت استعمارٍ استيطانيٍّ، كولونيالي، يمارس جرائم الحرب والعقاب الجماعي والتمييز العنصري والإبادة الجماعية، وأن قطاع غزّة تحت الحصار منذ أكثر من 17 عاماً، ويحقّ لأهله كل أشكال المقاومة ليتحرّر من الاستعمار؛ والقضية على هذا النحو.

كان الجيش الصهيوني في سجن عوفر يخوض ما يشبه الحرب مع أهالي الأسرى والفلسطينيين، وتشدّدت قوات السجن ضد الأسرى منذ 7 أكتوبر، ومارست عليهم تشدّداً وتنكيلاً

مع نجاح جهود التفاوض، أربعة أيام للهدنة، بدت "حماس" في غاية الدقّة والمرونة في التعامل مع الأسرى، بل ظهر الأخيرون وكأنّهم في زيارة لقطاع غزّة، وليسوا أسرى من أصله، وفعلاً تكرّرت مشاهد رفع الأيدي بالوداع والابتسامات لمقاتلي "حماس" بعد إيصالهم إلى الصليب الأحمر، أو للجهات التي تتسلمهم. أمّا في سجن عوفر في الضفة الغربية، فقد كان الجيش الصهيوني يخوض ما يشبه الحرب مع أهالي الأسرى والفلسطينيين، وتشدّدت قوات السجن ضد الأسرى منذ 7 أكتوبر، ومارست عليهم تشدّداً وتنكيلاً، كالذي أجرته ضد قطاع غزّة تقريباً، ومنع السجناء من أبسط حقوقهم المعيشية كالطعام والماء، وتعرّض كثيرون منهم للضرب، واستشهد ستة منهم في هذه الفترة، فكان طعامهم سيئاً وقليلاً، يقتصر على البيض صباحاً والخيار مساءً مع بعض الخبز، واكتظّت غرف الأسرى، وحُرموا الأغطية والأسرة اللازمة للنوم، وهناك من جُرّد من ملابسه وظلوا بملابسهم الداخلية. وصار التعامل في سجن عوفر من دون العودة إلى قوانين السجن، وسُحب التلفاز والمذياع وساعة اليد والملعقة وقشّاطة الحمام، والأوراق البيضاء والأقلام والكتب، وحتى المصحف الشريف، وتكرّر اقتحام قوات تابعة لإدارة السجن غرف الأسرى بشكلٍ شبه يوميّ، وضربهم بالعصي، وإطلاق القنابل المسيلة للدموع، ثم قنابل الأوكسجين خشية قتل أعداد كبيرة منهم. كذلك هُدّد أهالي الأسرى بعدم الاحتفاء بذويهم المفرج عنهم، واستُدعوا إلى الأجهزة الأمنية، واقتحمت منازلهم. والجدير ذكره أن عدد الموقوفين فقط بعد 7 أكتوبر زاد على الثلاثة آلاف في الضفة الغربية وأكثر من 215 شهيداً.

كرّرت حركة حماس، من دون توقّف، ضرورة إيقاف العدوان والتفاوض على الأسرى، ومن أجل سلامتهم؛ وهذا يشكّك آلياً بكل الرواية الصهيونية عن يوم 7 أكتوبر. وثانياً، جاء حديث الأسيرة الاسرائيلية المفرج عنها من دون مقابل، يوخبيد ليفشيتس، الإيجابي بخصوص تعامل "حماس" معها، ليشوّش على حكومة العصابة الحاكمة بأن في غزّة "حيوانات بشرية"، وتكرّر الأمر نفسه من كل السيدات اللواتي أطلق سراحهن؛ فقد أمّنوا لهنّ الأدوية والطعام والعناية الكاملة والملابس، ولم يتعرّضوا للضرب، أو الإهانة أو أيِّ شكلٍ من الإساءة، ولكنهم مُنعوا من الكلام حينما صاروا "أحراراً" في دولة العدو.

غيّر "طوفان الأقصى" المعادلات الإقليمية والدولية تجاه القضية الفلسطينية، فهل تتغيّر المعادلات الفلسطينية الضيقة كذلك؟

فازت "حماس" أخلاقياً بشكلٍ لا عودة عنه، ولم تَرفض أيّة مبادراتٍ إقليمية، من أجل التفاوض، في وقتٍ تماطل فيه عصابة تل أبيب. والآن، جرى التمديد للهدنة عدة أيامٍ، ولكنها محدّدة بالمدنيين، بينما التفاوض على العسكريين قد يكون الأصعب لاحقاً، وهو ما تخشاه دولة العدو بالتحديد، وتحاول تجاهله، والتأكيد أن التفاوض يخصّ المدنيين، حيث التفاوض على العسكريين لن يكون ممكناً بأقلّ من إخراج كل المعتقلين الفلسطينيين، وهذا ما ستعمل من أجله "حماس"، وهو ما ستتكثف الضغوط الدولية للوصول إليه.

مشكلة دولة العدو أن تمديد الهدن وصولاً إلى إيقاف العدوان سيؤدّي مباشرة إلى بقاء "حماس" والفصائل في غزّة، وذهاب نتنياهو إلى السجن، وإحالة أغلبيّة قيادات الجيش والأمن على المحاكم وسجنهم، وقد يتم إسقاط الحكومة بأكملها كذلك. وبالتالي، ستبدو "حماس"، المنتصرة في المعركة الخامسة ضد غزّة منذ الحصار عام 2007.

نجحت "حماس" في الاختبار الأخلاقي، بعد كل الحديث عن قتلها المدنيين، وزاد من ذلك التقارير التي أكّدت أن طائرات اسرائيلية هي التي قتلت أعداداً كبيرة من الذي كانوا في الأماكن التي هاجمتها "حماس" في 7 أكتوبر؛ إن عنايتها الفائقة بالأسرى، وتعامل دول العدو بأسوأ الطرق مع السجناء سيشجّع على بروز قوى يهودية أكبر وقوى عالمية، ورافضة بقوة استمرارية العدوان، ومن أجل إطلاق تنظيف السجون، وهو ما ستّتجه إليه الأمور، سواء رَفضت دولة العدوان وقامت بجولة جديدة من المقتلة للفلسطينيين والدمار أو مدّدت الهدنة، وصولاً إلى إيقاف العدوان.

على قادة دولة العدو أن ينزلوا عن الشجرة، ومعهم الإدارة الأميركية والحكومات الألمانية والبريطانية والفرنسية خصوصاً

الآن، على قادة دولة العدو أن ينزلوا عن الشجرة، ومعهم الإدارة الأميركية والحكومات الألمانية والبريطانية والفرنسية خصوصاً، وكل من أيّدّ العدوان و"اجتثاث حماس وغزّة"، والانسحاب الكامل ورفع الحصار، والاعتراف لأهل غزّة بالحقّ في إدارة شؤونهم، واختيار شكل الحكم المناسب لهم بمحض إرادتهم. أما "حماس" وبقية الفصائل، ومعها حركة فتح، فيقع عليهم البحث عن شكل النظام القادم، فهل سيظلون ضمن خيار الدولتين، أم سيفكّرون بخيار الدولة الواحدة، بعد أن لفظ خيار الدولتين أنفاسه منذ تأسّست سلطة أوسلو، وكانت أسوأ تجربة سياسية فلسطينية، فأكل الاستيطان الضفة الغربية وشُنّت خمس حروب على غزّة، وتشكلت سلطتان في قطاع غزّة والضفة، وبالتالي، إذ نجحت "حماس" أخلاقياً بالتعامل مع أزمة الأسرى، ورفضت قبول صفقة التهجير، ألا يجب أن تتجه كل القوى الفلسطينية للتعامل الأخلاقي مع الشعب الفلسطيني، والوصول إلى اتفاقٍ تاريخيٍّ ينهي حالة الانقسام، ويعترف بالآخر (فتح وحماس)، وينهي حالة التفكّك، ولا سيما أن كل هذه القوى والشعب الفلسطيني يواجه آخر وأسوأ استعمار كولونيالي في العالم، وقد بدا أن دولة العدو يمكن هزيمتها، عسكرياً، وديمغرافياً، وأخلاقياً، وطبعاً بعيداً عن الصفقات المقترحة، من قبيل العودة إلى خيار الدولتين أو دولة منزوعة السلاح أو الاتفاق على إرسال قواتٍ دوليةٍ إلى غزّة أو نظامٍ أمني في غزّة.

لقد غيّر "طوفان الأقصى" المعادلات الإقليمية والدولية تجاه القضية الفلسطينية، فهل تتغيّر المعادلات الفلسطينية الضيقة كذلك، وتستفيد من المتغيّرات، ويوضع خيار الدولة الواحدة على الطاولة، والتخلّي عن خيار الدولتين، بعد أن فشلت الأخيرة بشكل كامل؟

لا خيار سياسياً أكثر عقلانية، يحقّق التغيير الفعلي في هذه القضية، وينهي الاستعمار الاستيطاني الإجرامي "الغربي" في كل المناطق الفلسطينية "غزّة والضفة والـ48" والمنطقة، ولصالح الفلسطينيين واليهود، سوى الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة.