مُؤتمَرات التمكين والتعافي المُبكّر وتعويم النظام السوري
تغيّر العالم منذ بدأت الثورة السورية. وأبرز تلك التغيّرات في الأعوام الأخيرة جائحة كورونا، وحرب روسيا على أوكرانيا، والحرب العبثية في السودان، والعدوان الجديد لدولة الاحتلال على غزّة، المستمر منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول (2023)، والخلاف على استقلال تايوان بين أميركا والصين. ونستطيع إضافة رفض النظام السوري أيّ مبادرات للإصلاح السياسي. وعلى وقع هذه التغيرات وسواها، تشكّلت أحلاف سياسية واقتصادية جديدة، ونشأت خلافات كبيرة بين استراتيجيات الدول العظمى.
في سورية، وبعد الحروب ما بين 2013 و2018، ومجيء أميركا 2014، وروسيا 2015، إليها، وانزياح الخطر عن انهيار النظام، وعدا أنّ هاتين الدولتين تتبنيّان التدرّج في تغيير النظام وترفضان إسقاطه، انقسم البلد "سوريات"، بين مناطق تابعة لروسيا، ولإيران، ولأميركا وحلفائها، ولتركيا. وتقريباً، ومنذ 2018، تبدو سورية أقربَ إلى الانتداب ومن دون انتدابٍ أمميّ، ومن دون أيّ تنمية محلّية أو سعيّ إلى حلّ سياسيّ جادّ لإعادة تشكيل النظام، وبالتالي، استقرّت واستنقعت تلك "السوريات"، وانتقلت أزمة الاحتياج الإنساني منذ عام 2011 من خمسة ملايين إنسان إلى قرابة 16 مليوناً، وهم بأمسّ الحاجة إلى أشكال المساعدة كافة؛ مساكن/ خيم، لباس، طعام، ماء، أدوية، تعليم، فرص عمل، مشافٍ وسواها، ولأنّ الأمر كذلك، انعقدت مُؤتمَرات دولية كثيرة بشأن تلبية تلك الاحتياجات، وتنعقد في بروكسل وتركيا، هذه الأيام، مُؤتمَرات "إغاثية" بقصد تلبية احتياجات اللاجئين في الدول المُحيطة بسورية، ويسود في هذه اللقاءات مفهومَا التعافي المُبكّر والتمكين الاقتصادي، بهدف الاستدامة والاستقرار للمجتمعات المحلّية.
أفشل المُؤتمَر مساعي دول أوروبية عديدة كانت تستهدف الضغط على مُؤتمَر بروكسل للانفتاح على النظام بحجّة إعادة النظر في سياساته
لاءات الاتحاد الأوروبي
يؤكد مُؤتمَر بروكسل الثامن في 27 الشهر الماضي (مايو/ أيار) أنّ الحلّ الفعلي لمشكلات سورية يبدأ بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 (أكّد أنّ الشعب السوري هو من يقرّر مستقبل البلاد، ودعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية، مطالباً بوقف أيّ هجمات ضدّ المدنيين بشكل فوري)، وأنّ لا تطبيع مع النظام والعقوبات مُستمرّة عليه عاماً إضافياً، وليس من إعادة إعمار، وهي لاءات الاتحاد الأوروبي القديمة، ولكنّ الاتحاد يستمر في رفع العقوبات عن المساعدات الخاصّة بالشؤون الإنسانية والإغاثية. وبالتالي، ليست هناك استثمارات قادمة للنظام، كما يريد الأخير، ومعه روسيا وإيران. من أهداف المُؤتمَر منع وصول اللاجئين إلى أوروبا، وقد أفشل المُؤتمَر مساعي دول أوروبية عديدة كانت تستهدف الضغط على مُؤتمَر بروكسل للانفتاح على النظام بحجّة إعادة النظر في سياساته، وأنّ هناك استقراراً حدث، وسواه، مُستغلّين فكرة هاجس منع الهجرة التي يتبنّاها الاتحاد الأوروبي سياسةً عامّةً، وأنّ الانتخابات البرلمانية الأوروبية ستكون في صلب البرامج الانتخابية، وستستغلّها الأحزاب اليمينية والشعبويون.
فشلت الكتلة الأوروبية المُطالِبَة بالانفتاح على النظام، وأفاد منسّق الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل بأنّ أموال المُؤتمَر هي لدعم اللاجئين، وليست لدعم نظام دمشق، رغم أنّ كثيراً من تلك الأموال سيصل إلى دمشق، كذلك، وعبر ما تسمّى سياسة التعافي المُبكّر، وهي فكرة تتبنّاها الأمم المتّحدة، التي تفضّل أن يكون مركز صندوقها ومستودعاتها ومجموعاتها العاملة على الأرض في دمشق، وقد نُشرت العديد من الدراسات حول الفساد في علاقة تلك المجموعات بقيادات من النظام ما بعد 2011، وهذا يشير إلى خطورة أن يكون مركز التعافي المُبكّر في دمشق، وبالتالي نهب أمواله. المشكلة أنّ الدول الداعمة تلك المُؤتمَرات، لا سيّما الأوروبيين وأميركا، ورغم موقف الأخيرة السياسي الرافض للتطبيع، لا تمارس ضغطاً حقيقياً على النظام أو راعيتيه؛ روسيا وإيران، وقد استبعدته من مُؤتمَر بروكسل الثامن. وبالتالي، فهي تتهرّب من الضغط الدولي للانتقال السياسي، وتُعالج أثر استمرار الأزمة المفتوحة وبشكلٍ هامشيّ للغاية، اذ تحاول تلبية احتياجات اللاجئين بدلاً من أن تمارس الضغط من أجل تنفيذ القرارات الدولية؛ بيان جنيف 2012، وقرار مجلس الأمن 2254، وسواهما.
نستنتج، هنا، أنّ تلك المُؤتمَرات، ومنها مُؤتمَر إسطنبول، أخيراً، للتمكين الاقتصادي، تنطلق من استدامة الانقسام بين "السوريات"، ومن "شرعنة" قوى الأمر الواقع، قاصدين الفصل بين السياسي المُؤجّل، وهم لا يستهدفونه بمُؤتمَراتهم، والاقتصادي، وهو ما يعملون لأجله. تشارك مع الدول الداعمة عشرات المنظّمات السورية، والائتلاف الوطني، ومئات الناشطين المدنيين، وهذا جهدٌ كبير، ولكنّه بلا جدوى وضائع، بينما كان يجب الانشغال بكيفية تفعيل المجتمع السوري والملايين في المهاجر والدول المحيطة بسورية، والملايين في "المُحرّر"، من أجل الضغط على الدول لتتبنّى الانتقال السياسي، المدخل الوحيد لحلّ احتياجات السوريين، وإعادتهم بشكل حقيقي ومستدام.
الحلّ في سورية يبدأ بالحل السياسي أولاً، والعمل من أجل تحقيقه هو المدخل للحلّ الاقتصادي والاجتماعي، وليس العكس
تغييب المشكلة الأصلية
إذاً، تغفل تلك المُؤتمَرات المشكلة الرئيسية، وهي الانتقال السياسي، ويأتي إغفالها على أرضية عدم وجود رغبة دولية بذلك، وبالتالي، "لنلتفت إلى شؤون الناس" (!). تتجاهل هذه الإنسانية الفخمة، أيضاً، طبيعة قوى الأمر الواقع من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهيئة تحرير الشام، والنظام، والفصائل، وأنّها أنظمة فساد، وليس لديها قضاء مستقل، ومحكومة من مافيات، وترفض أيّ شفافية أو مراقبة، وسَرقت أغلبية أموال المساعدات سنوات، منذ 2011. وبالتالي، كيف يُفعَّل التمكين، والبدء بمشاريع اقتصادية صغيرة أو متوسّطة، أو تشكيل صندوق مالي مُستقلّ، أو دعم الزراعة والصناعات البسيطة؟ وكيف ستتجسّد في أرض الواقع المشاريع الاقتصادية والاجتماعية؟ أليس هذا تمكيناً وشراكة للمنظّمات القائمة على تلك المُؤتمَرات مع قوى الأمر الواقع؟... في النهاية، وكما تكرّس الوضع المتأزّم لملايين السوريين، وصار عددهم 16 مليوناً، سيستمر الأمر ذاته. لنقرأ حجم المساعدات السابقة، وكيفية نهبها؛ لقد دفع الاتحاد الأوروبي، وحيداً، للسوريين 33 مليار يورو من 2011 إلى 2024، هناك دول أخرى دفعت مليارات كثيرة، وقد تصل إلى أرقام مذهلة؛ 300 مليار مثلاً، ولكنّ أغلبيتها نهبته القوى المتنفّذة على الأرض، وإنّ واقع الـ16 مليوناً الكارثي يوضّح الفكرة؛ فعلوا ما يفعله النظام بالضبط. الحلّ في سورية يبدأ بالحل السياسي أولاً، والعمل من أجل تحقيقه هو المدخل للحلّ الاقتصادي والاجتماعي، وليس العكس؛ الطريف هنا أنّ النظام كان يُشدّد على الحلّ الاقتصادي والإداري، ويرفض الإصلاح السياسي منذ عام 2000، ولا يزال (!)
ليست وظيفة المنظّمات السورية المدنية والتنموية ومراكز الأبحاث البحث في تمكين قوى الأمر الواقع من تعزيز الانقسام (مشاريعها للشمال المُحرّر) أو في الشؤون الثقافية للسوريين، ومواضيع الهُويّة والعلمانية ومرجعيات الدستور مثلاً، والطائفية، ويمكن لهذه المنظمات أن ترفع خلاصات وتوصيات لدول العالم كافّة عن احتياجات السوريين، ولكن يجب البحث عن مشكلات المعارضة المُزمنة، ولماذا فشلت، ولا تزال، ومن أجل الوصول إلى حلّ سياسيّ، أولاً، وكيفية الوصول إليه هي من أكثر وظائف تلك المنظّمات أهمّية، وهذا ما يجب تحشيد دول العالم من أجله، وليس التحشيد من أجل التمكين الاقتصادي والتعافي المُبكّر، الذي ستكون حصّة مناطق المعارضة منه قليلة، والحصّة الأكبر للنظام، أيّ أنّ المعارضة ومؤسّساتها تعمل ومنظمّات المجتمع المدني من أجل فائدة النظام، وتخفيف أزمته الاقتصادية والاجتماعية الشديدة، وبالتالي، لن يهتمّ بالإصلاح السياسي. نعم، هذا ما يمكن استنتاجه ممّا حدث سابقاً، إذ كانت الكتلة المالية الأكبر والمساعدات تأتي إلى دمشق، ويقوم النظام بنهبها، وهو ما سيتكرّر الآن.
التمكين الاقتصادي والتعافي المُبكّر الفاشلان
تنطلق فكرة التمكين من فكرة التعافي المُبكّر لمناطق سورية كافّة، كما في مُؤتمَر بروكسل الثامن، بينما هي في مُؤتمَر إسطنبول مخصّصة لمناطق السيطرة التركية، وتتجاهل المناطق الواقعة تحت نفوذ "قسد" أو هيئة تحرير الشام أو مناطق النظام، وبالتالي، هي مشروع خاصّ بمناطق درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام، التي تدخّلت فيها تركيا عسكرياً لفرض سيطرتها عليها، وبالتعاون مع فصائل سورية تتقاضى رواتبها منها، والتقارير من مُؤتمَر إسطنبول تُؤكّد أنّ التوصيات كافّة، وتنفيذ مشاريع التمكين، يجب أن تُنسّق مع المؤسّسات التركية، وهذه وصفة للتقسيم تقودها قوى المعارضة، حيث دَعم الائتلاف الوطني هذا المُؤتمَر، وأكّد، مراراً وتكراراً، فكرة التمكين والتعافي المُبكّر، وكأنّه منظّمة مدنية، وتقوم بالأمر ذاته "قسد" في مُؤتمَريها.
إذ ستستفيد تركيا من أيّ استثمارات جديدة، فإنّ السياسة التركية ذاتها لا تبدو أنّها تتبنّى سياسة داعمة لموضوع التمكين
في بروكسل، اجتمعت الدول الأوروبية والعربية المحيطة بسورية وتركيا، ومئات من منظّمات المجتمع المدني السورية. تلتقي تلك الدول بسبب وجود أعداد كبيرة من اللاجئين في الدول المحيطة بسورية، وهناك تخوّف أوروبي من ملايين جديدة من اللاجئين السوريين، بعدما هدّد أمين عام حزب الله حسن نصر الله بفتح البحر لهم للسفر إلى أوروبا، وهناك معاناة كبيرة للمهجّرين في تركيا والأردن، وهناك تشدّد كبير في العراق وأربيل ضدّ اللاجئين، للضغط على أوروبا للاستيلاء على أكبر كتلة مالية من أموال المساعدات، في مقابل الموافقة على إبقاء الملايين في أراضيه، وبحجج أقرب إلى الابتزاز، فإمّا أن تدفعوا أو نفتح البحر ونطرد اللاجئين أو نعيدهم إلى مناطق النظام، حيث لا تتوفر أيّ شروط آمنة. وبالتالي، الكتلة المالية الشحيحة التي ستُجمع لن تكون قادرة على تلبية حاجات الدول المحيطة بسورية، ولا قادرة على تلبية احتياجات السوريين الـ16 مليوناً، وكذلك، لن يتمكّن مُؤتمَر إسطنبول للتمكين من المساهمة في تلبية احتياجات المناطق المُحرّرة في الشمال من التمكين والنهوض، ولا في إقامة مشاريع اقتصادية بسيطة، ولن تأتي أموال ذات معنى إلى منطقة غير مستقرة أمنياً، وليست فيها سلطة تنفيذية أو قضائية مستقلّة أو غير فاسدة، وتابعة لتركيا، وإذ ستستفيد تركيا من أيّ استثمارات جديدة، فإنّ السياسة التركية ذاتها لا تبدو أنّها تتبنّى سياسة داعمة لموضوع التمكين، فلم تتوصّل إلى اتفاقية نهائية بينها وبين روسيا وإيران، أو مع تركيا، وتبدو المنطقة قابلة لتجدّد الحروب والمعارك في كلّ حين، وكذلك، بين "قسد" وتركيا ومعها الفصائل، أو بين الأخيرة والنظام، وبين المليشيات التابعة لإيران والفصائل، وبالتالي، يصبح موضوع التمكين، رغم هامشيته والضجّة الضخمة بشأنه، أقرب إلى تغيير الأولويات واستهلاك الوقت، وبدلاً من الانشغال في كيفية تفعيل الدور السياسي لقوى المعارضة والناشطين والمُهجّرين، تصبح الأولويات مُتعلّقةً بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية، التي تنعدم أيّ إمكانات لتحقيقها واقعياً، والنهوض بالمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، عدا أنّه ليس من مهامّ الكتل المالية النهوض الاقتصادي.
أموال شحيحة
الأموال المُخصّصة في نهاية مُؤتمَر بروكسل كانت شحيحة؛ قرابة سبعة مليارات ونصف مليار يورو، وهي على شكل منح وقروض، وسيجرى تقديمها على دفعات، وانخفضت الهبات المالية من أميركا وألمانيا، ودول عديدة، بنسبة 50% عن العام المنصرم. وقياساً بالسنوات السابقة، فإنّ كثيراً منها لا يتمّ تأمنيه، وكتلة كبيرة من الأموال المجموعة تذهب إلى مصلحة النفقات التشغيلية للمنظّمات الدولية المُشرفة على الاتفاق والمشاريع، ورواتب الموظّفين، وكلفة عقد الاجتماعات وأجور المكاتب. لم يرضَ كلّ من لبنان وتركيا والأردن ومصر عن مخرجات مُؤتمَر بروكسل، فالأموال التي خُصّصت لها محدودة، ووجدتها المنظّمات السورية غير كافية، فهناك أزمات أخرى؛ أوكرانيا، غزّة، السودان، اليمن، وسواها، وكلّها تحتاج إلى دعمٍ ماليّ كبير، لا سيّما أنّ دولاً كثيرة ترفض تقديم أيّ مساعدات، كروسيا والصين مثلاً، وكذلك، دول عربية عديدة، وثريّة أيضاً.
إذاً، وبعد نهاية مُؤتمَر بروكسل الثامن، نقول إنّ الأزمة السورية ستتفاقم، وإنّ المدخل لحلّها هو الحلّ السياسي، وهو وحده ما سيتيح طرح إعادة الإعمار، بدءاً من الأموال السورية، وإعادة اللاجئين وحلّ مشكلاتهم. يتحمل مسؤولية تأجيل الحلّ السياسي العالم بأكمله، بدءاً بأميركا وبالاتحاد الأوروبي، وبالطبع، روسيا والصين، والدول المحيطة بسورية، وفيما يخصّ لبنان، الذي اتفق معظم سياسييه على طرد المهاجرين، إلا ما رحم ربي، تقع عليه مسؤولية إضافية عن الوضع السوري بعدم تحميله حزب الله مسؤولية تهجير كتلة كبيرة من المهجّرين إلى لبنان، لا سيّما أن مئات الآلاف من منطقة القلمون. اللاجئون ليسوا سبب أزمات لبنان، وتتحمّل الحكومة اللبنانية المسؤولية عن أحوالهم.
توصيات غير مهمّة
صدرت توصيات عن مُؤتمَر إسطنبول (23-24 مايو/ أيار 2024)، الذي عُقِدَ تحت عنوان "التمكين الاقتصادي والاستدامة في سورية"، بهدف "تسليط الضوء على أنماط جديدة من التدخّل الإنساني"، وتقوم المؤسّسات والمنظّمات التي دعت إليه بوضع "خريطة تنمية لمناطق الشمال الثلاث (درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام)". لا تخرج هذه التوصيات عن كونها دعوات عامة، ولطالما تكرّرت هنا وهناك، وهي بتكثيف: تشكيل فرق إعلامية لطلب الأموال من الخارج، وتشجيع المنظّمات الدولية لدعم المشاريع والتمكين في الشمال، وإنشاء صندوق للتمكين الاقتصادي، وإطلاق ورش عمل للمتخصّصين، ودعم المبادرات الشبابية، والمشاريع الصغيرة، ودعم المنتجات الزراعية والصناعية، وسواها.
أقامت الدول عشرات المُؤتمَرات، سابقاً، بقصد تنشيط أعمال المنظّمات المدنية، وعُقدت بهدف مساعدة السوريين، ولكنّ السوريين انتهوا إلى مزيدٍ من الإفقار واللجوء، وتفكيك الهُويّة الوطنية، والابتعاد عن الانشغال بكيفية إعادة تنظيم المعارضة وفق برنامج جديد وبرؤية وطنية بعيداً عن التبعية لهذه الدولة أو تلك، وتعاظمت مختلف أشكال الانقسام المجتمعي؛ وهو الموضوع الأكثر أهمّية، الذي ترفض النقاش فيه أطياف كثيرة من المعارضة، وليس الائتلاف الوطني فقط، الذي شارك في مُؤتمَرَي إسطنبول وبروكسل، وللسخرية الكاملة، يطالب هادي البحرة أن تتوزّع أموال المساعدات بين مناطق سورية بالمساواة والعدل (!) وهو بذلك يقرُّ بالوضع الراهن وضعاً نهائياً، وهذا ما قد يفضي إلى التقسيم.
غياب المعارضة الوطنية
دور المعارضة السورية هو الغائب الأكبر، إذ إنّ مبررات وجودها أن تمثّل السوريين سياسياً، وتقود ثورتهم إلى التغيير، ولا يكفي هنا القول إنّها تتمسّك بقرار مجلس الأمن 2254، أو إنّ النظام هو من يتحمّل مسؤولية المآلات السورية. المقصد أنّ النظام في أسوأ أوضاعه، وهناك خلافات بينه وبين إيران، والقضية ليست محصورة بموقفه الصامت إزاء الإبادة في غزّة، وهناك انفتاح سعودي تجاهه في الآونة الأخيرة بقصد إخراجه من أزمته، بينما المطلوب من المعارضة تعميق أزمته أو الاستفادة منها، وتوضيح محدودية نتائج الانفتاح على النظام، وأنّه لن يشكّل نقلة بالوضع السوري، ويمكن أن تتحقّق النقلة هذه، فقط، في حال الانتقال إلى تطبيق القرار 2254، وبضمانات عربية ودولية وفق برنامج زمني مُحدّد؛ وهذا عمل لا تستطيع المعارضة الفاشلة، بهيئاتها وحكومتها، القيام به، ولهذا، فقدت دورها التمثيلي لدى الدول كافّة.
قد يقود الوضع المتأزّم للمعارضة ومناطقها إلى العودة إلى تعويم النظام، وشطب باقي "السوريات" في حال حدوث صفقة إقليمية ودولية بخصوص النظام الحالي
لقد فقدت المعارضة كلّ الدعم الدولي لها لتمثيل الشعب السوري. والنظام حالياً في أسوأ حالاته، وخلافاته بدأت تتعمّق مع أهم حليف له، ونقصد إيران، وروسيا غارقة في أوكرانيا، وبالتالي، القضية المركزية في اللحظة الراهنة هي أن يعاد تشكيل المعارضة من جديد، وهذا لا يمكن جعله واقعاً قبل نقاش رؤى وسياسات المعارضة الفاشلة منذ 2011، وإعلانه للسوريين. إنّ انشغال المعارضة بمُؤتمَرَي إسطنبول وبروكسل هو وصفة لاستدامة وتمكين التقسيم في سورية، والتعفّن وتعزيز كلّ أشكال الانقسامات في سورية، وقد يقود الوضع المتأزّم للمعارضة ومناطقها إلى العودة إلى تعويم النظام، وشطب باقي "السوريات" في حال حدوث صفقة إقليمية ودولية بخصوص النظام الحالي، والمسعى السعودي يتجّه نحو ذلك، وكذلك المجموعة الأوروبية، الراغبة بالانفتاح على النظام.
لا ينهض الاقتصاد في أيِّ بلدٍ إلّا وفق رؤى وطنية، وبالاعتماد على الموارد المحلّية، الطبيعية والبشرية، أولاً، وضمن سوق وطنية وموحّدة، وعلى أساس النهوض بقطاعات الصناعة، وتنويعها، والزراعة، وتحديد سياسات التوزيع والاستهلاك والتجارة الداخلية والخارجية بما يخدم النهوض الاقتصادي، والحدّ من الفقر. المؤتمرات أعلاه مشاريع هامشية بامتياز، ولم تتمكّن من قبل، ولن تتمكّن الآن، من حلّ أيّ قضية تخصّ المُهجّرين؛ السكن، العمل، الماء، الطعام، التعليم، ولا بناء بنية تحتيّة أو مشاريع اقتصادية، وهي تساهم بقسطها في إطالة عمر النظام، وعمر بقية "السوريات" الفاشلة.