حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا تحتاج إلى وحدة وطنية
مضى ما يزيد على تسعة أشهر على اختيار لجنة الـ 75 الليبية (اختارتها الممثلة الخاصة لأمين عام الأمم المتحدة في ليبيا، ستيفاني وليامز) حكومة الوحدة الوطنية، وأكثر من ستة أشهر على نيل هذه الحكومة الثقة من مجلس النواب، إذ استبشر الليبيون خيراً بالخطوة، ورحّبوا بهذه الحكومة، وعلّقوا عليها آمالا كثيرة، وانتظروا ترسيخ اسمها على أرض واقعهم المفتت، لتحقيق وحدة وطنية عجزت الحكومات السابقة عن تحقيقها، والتي ساهمت أكثرها، بقصد أو بدونه، في اتساع الهوة وإصدار قراراتٍ أدّت إلى تمزيق أوصال البلاد، خصوصا بعد الحرب التي شنّت على طرابلس، ودفع عامة الليبيين، في شرق البلاد وغربها، أكلافها، من أرواحهم وممتلكاتهم وقطيعة اجتماعية، فيما لم تكن الحرب خيارهم.
أُنيطت بالحكومة مهمة رئيسية قبلتها وتعهدت بها، إعداد الظروف المناسبة وتهيئتها لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، وبدلا من أن تكون حكومة مصغرة أشبه ما تكون بحكومة تصريف أعمال، تم التوسّع في عدد وزرائها ووكلائها لإرضاء جميع الأقاليم والمناطق الجغرافية والأطراف السياسية، فكانت حكومة محاصصة باقتدار، حسب اعتراف رئيسها، عبد الحميد الدبيبة بنفسه، وقد ظنّ أن اختيار وزراء ووكلاء من كل المناطق الجغرافية، والتركيز على المنطقة الشرقية التي كثيرا ما تتعالى أصواتٌ فيها شاكية من التهميش وعدم وجود من يمثلها في الحكومة، ظن أن هذا سيجعل الحكومة تمارس أعمالها في مأمنٍ من هذه الادعاءات، وأن المسؤولين الذين تم اختيارهم من تلك المنطقة (وزراء أو نواب لرئيس الحكومة) سيتولون الدفاع عن خطط الحكومة وقراراتها أمام أقاليمهم ومكوناتهم الاجتماعية، إلا أنه لم يمض وقتٌ كثير حتى طفت على السطح خلافاتٌ ظاهرها تهميش المناطق، وباطنها مصالح شخصية ضيقة تضاربت فيما بينهم.
الشاهد هنا السجالات التي شهدتها اجتماعات الحكومة أخيرا، والتصريحات التي توزّعت بين القنوات الإعلامية والتهم المتبادلة في رسائل وخطابات رسمية، وبشكل غير رسمي على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت ماثلة للعيان. ولا يحتاج المتابع لجهد إضافي لإدراك الخلاف والاختلاف بين مكوّنات هذه الحكومة حول مواضيع عديدة كانت محل اتفاقٍ بينهم.
كلما اختلفت وجهات النظر، أو صدر قرار حكومي من هنا أو هناك، لا يتطابق وهوى بعضهم ومصلحته، نجد التلويح بالانفصال والتهديد بالعودة إلى ليبيا المقسّمة
وفي خطوةٍ غير مسبوقة، اجتمع النائب الأول للحكومة، حسين القطراني، في بنغازي مع كل المسؤولين في حكومة الوحدة الوطنية الذين تعود أصولهم إلى المناطق الشرقية، وأفضى الاجتماع إلى تأكيد أن رئاسة حكومة الوحدة الوطنية لم تلتزم بتنفيذ بنود الاتفاق السياسي، سيما في ما يتعلق بالتوزيع العادل للثروات بالطرق المتفق عليها بين أقاليم ليبيا المختلفة، كما دان المجتمعون رئيس الحكومة في برقية بثت على الهواء، قائلين إن "حكومة الوحدة الوطنية لم ترتق الى مستوى المسؤولية الوطنية والتاريخية، ووقعت في مسالك الإدارة الفردية والحسابات الشخصية، ولم تنجح في إدارة الاختلاف السياسي". كما دان المجتمعون ما أسموه تعنت رئيس الحكومة، الدبيبة، في الاحتفاظ بوزارة الدفاع، وعدم اتخاذه أي إجراء لتسمية الوزير، على الرغم من الاتفاق المسبق على ذلك، مستنكرين تصريحاته التي لا تخدم المصلحة العليا للبلاد، بل وتزيد الفرقة والشقاق بين أبناء الوطن، حسب ما جاء في بيانهم. وهي تصريحاتٌ لم تعد تكتفي بالتلميح، بل أشارت، صراحةً، إلى أنه إذا لم يتم التعامل مع هذه الاقتراحات، وأخذها على محمل الجد، فإن الإجراءات التصعيدية التي يمكن أن تتخذ قد تمس وحدة البلاد. وفي السياق نفسه، صعّد وكيل وزارة الداخلية، فرج قعيم، من لهجته ضد الدبيبة في أكثر من تصريح، متحدّثا عن الاستمرار في تهميش المنطقة الشرقية، وعدم إعطاء صلاحيات للمسؤولين التابعين للحكومة، والتي تعود أصولهم إلى هذه المنطقة، مضيفاً أن الاستمرار في ذلك يعني أن وحدة ليبيا على المحكّ، محملا المسؤولية لرئيس الحكومة. وقال إنه استقوى بالمظاهرات التي خرجت في طرابلس لتأييده، عندما سحب مجلس النواب الثقة من حكومته، معلقا على ذلك بسخرية قائلا "لو كان الشعب ينفع لكان نفع القذافي"، في إشارة إلى المظاهرات التي خرجت في عموم ليبيا قبل سقوط نظام القذافي.
الغريب أنه كلما اختلفت وجهات النظر، أو صدر قرار حكومي من هنا أو هناك، لا يتطابق وهوى بعضهم ومصلحته، نجد التلويح بالانفصال والتهديد بالعودة إلى ليبيا المقسّمة بين ولايات ثلاث، وكأن الحفاظ على وحدة ليبيا جميلٌ يسدونه لهذا الشعب، ونسوا وتناسوا أن وحدة ليبيا لم تكن حالةً معطاة، بل كانت ثمرة جهود وتضحيات وتنازلات من الآباء والأجداد، لتكون ليبيا وحدة واحدة.
حكومة الدبيبة التي اختارت "الوحدة الوطنية" اسما لها لم تستطع النأي بنفسها عن الجهوية والقبلية، وما زالت عاجزة عن التعامل بحرفية مع تلك الثقافة
على كل حال، شهد الشهران، الماضي والحاضر، أحداثا وتصريحات كثيرة تؤكّد أن الهوة لا تزال عميقة بين الأطراف السياسية، وخصوصا التي تمثل الشرق والغرب، وأن حكومة الدبيبة التي اختارت "الوحدة الوطنية" اسما لها لم تستطع النأي بنفسها عن الجهوية والقبلية، وما زالت عاجزة عن التعامل بحرفية مع تلك الثقافة، وأن الانفصاليين والفيدراليين لم يفقدوا الأمل، فتحرّكاتهم وتصريحاتهم تعلو وتخفت تبعا للظروف، لكن قناعاتهم لا تتبدّل في أنه لا حل جذريا لمشكلات ليبيا إلا الفيدرالية التي تضمن توزيع المقدّرات والخدمات بين أقاليم ليبيا الثلاثة، حسب قناعتهم. والمضحك المبكي في موضوع هذا الخلاف أنه لم يعد كما اعتاده الليبيون، اختلافاً على المناصب، وصراعاً على مراكز الحكم وعلى المؤسسات السيادية والمشاريع الاستثمارية، بل وصل إلى درجةٍ أصبحت محلّ سخريةٍ واستهجانٍ من معظم الليبيين، فعلى سبيل المثال، دارت معركة حامية الوطيس على محور رئيس الحكومة ونائبه الأول على خلفية الصفة التي يحملها الأخير، حيث خاطب النائب الأول القطراني، في رسالة مطولة إلى الدبيبة، شدّد فيها على تمسّكه بالصفة (النائب الأول)، ومعترضا على مخاطبته بشكل مباشر من وزير الدولة لشؤون رئيس الحكومة، قائلا "أحكام التسلسل الإداري وطبيعة الموضوع تقتضي أن يعي من أصدر الكتاب أن توجيهه إلينا لا يكون إلا بموجب كتاب رسمي من معاليكم، وليس من قبل السيد وزير الدولة، وهو لا يعد رئيسنا الأعلى أو المباشر". مضيفا إن "ذلك يدلّ دلالة واضحة على التخبّط الإداري لوزير الدولة الذي وجّه إلينا كتابه، متجاهلا أننا، ومنذ مباشرتنا لمهامنا بالحكومة في شهر 3 لسنة 2012، استعملنا صفة النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وخاطبنا العديد من القطاعات بهذه الصفة".
الخلاصة أن هذه الاختلافات والاتهامات التي ظهرت تذكي النار التي ما زالت تحت رماد تلك الحرب التي شُنت على طرابلس. أما المواطن الليبي البسيط، المكتوي بخوف وفزع من طبول حربٍ قد تُقرع من جديد، أو تلويح بانفصالٍ قد يحدُث، يعي تماما أن ما يحدُث من تفنّنٍ في البحث عن نقاطٍ للاختلاف، حتى إن كانت "تافهة"، والمناكفات التي تحصل بين معظم متصدّري المشهد هي جريمةٌ ترتكب في حق وطن وشعب، أيا كانت المبرّرات أو الأسباب التي يتمسّك بها هذا الطرف أو ذاك. ومع هذا المشهد المعبّد بكل أساليب القلق والخوف، يبدو أن حكومة الوحدة الوطنية التي جاءت بعد توافقٍ رخوٍ تحتاج "وحدة وطنية"، تجمع مكوناتها قبل أن تجمع الشعب الليبي، من دون أي إقصاءٍ لأي طرف تحت أي حجّة أو ذريعة، والوصول إلى إجراء انتخاباتٍ مقنعة، يتوفر فيها الحد الأدنى من النزاهة، وسيكون هذا هو الإنجاز المعتبر لهذه الحكومة.