حضر "الكرنفال" ولم يحضر الجمهور
ما حدث في إيران الجمعة المنصرمة عبّرت عنه شابّة إيرانية في تغريدة على منصّة إكس. قالت: "حضر الكرنفال، ولم يحضر الجمهور". والمعنى الذي استنبطته الشابة أن الانتخابات البرلمانية التي جرت لم تحظ بمشاركة جماهيرية معتبرة، بل كانت المشاركة متدنّية عكست عزوف قطاعات واسعة لم تجد في العملية الانتخابية طريقاً للتغيير، في ظل نظام مغلق تجاوز عمره أكثر من أربعة عقود، بعدما فقدت الأمل في أن يجيء تصويتها لهذا المرشّح أو ذاك بفائدة ما عليها أو على المجتمع ككل، وهذا ما توقّعته مقولة مسرّبة لممثل التيار الإصلاحي، مصطفى تاج زاده، القابع في سجن إيفن الرهيب، والذي مُنع من الترشّح للرئاسة في آخر انتخابات رئاسية، في أن بلاده تمرّ وسط مأزق صعب، دفع حكّامها الذين تتنازعهم المخاوف من ازدياد أعداد المعارضين وفقدان شرعيّة الحكم إلى إسقاط ترشيح آلافٍ من الإصلاحيين والليبراليين والمستقلين في الانتخابات الحالية.
"لن يأتي كرنفال" الجمعة، مهما كانت حصيلته، بجديد، و"المأزق الصعب" الذي أشار إليه تاج زاده سيظل ماثلاً في المشهد الإيراني إلى أمد أطول، وسيدفع إلى زيادة قبضة النظام على السلطة، والسعي لإعادة إنتاج "الشرعية" المفترضة التي اعتمد عليها منذ ولادة جمهورية ولاية الفقيه التي ما زالت تعاني من الثقوب، وقد كشفت العملية الانتخابية أخيراً تشبث النظام ببعض الأساطير والخدع لإضفاء شرعية دينية على وجوده، بهدف استمالة جماهير العامّة ودفعها إلى التصويت. وواحدة من هذه الخدع ترويج وهم إن إقدامهم على ذلك سيساعد "المهدي المنتظر" على إنهاء فترة غيابه، وسيكون لهم وحدهم شرف مرافقته والتبرّك به!
مع ذلك، لا يبدو أن النظام في إيران يعيش أيامه الأخيرة، كما قد يدور في أفهام بعضهم، فقد استطاعت طبقة "الكهنوت" الحاكمة أن تكرّس وضعاً يشكل امتداداً لها وسط القطاعات الدنيا من المجتمع التي تعيش على الأساطير وحكايات المواكب الحسينية، وأشاعت مناخاً يربط حصول تلك القطاعات على المنافع والأرزاق من خلاله طاعتها، وفتحت أمامهم، بالتنسيق مع حكّام العراق التابعين لها، أبواب زيارة المراقد المقدّسة في النجف وكربلاء، والتبرّك بها، وممارسة الطقوس الخاصة في مثل هذه الحالات، مع توفير كل متطلّبات إقامتهم في مواسم الزيارات مجاناً من حكومة بغداد، ومن ثم انتظار الفرج على يد "المهدي" الذي يجيء ولا يجيء!
استطاعت طبقة "الكهنوت" الحاكمة الإيرانية أن تكرّس وضعاً يشكل امتداداً لها وسط القطاعات الدنيا من المجتمع التي تعيش على الأساطير وحكايات المواكب الحسينية
هذه الخبطة وحدها ضمانة بقاء نظام ولاية الفقيه، وهي التي أتاحت الفرصة أمام المتشدّدين لمواصلة القبض على السلطة والمال والقرار، والسير في الطريق الذي سلكوه منذ "الثورة الإسلامية" التي أطاحت نظام الشاه. ويمكن اعتبار الشعارات التي رفعها المتشدّدون في الحملة الانتخابية أخيراً حالة "إعادة إنتاج" للمؤسّسات، وحتى للشخصيات المهيمنة اليوم على المشهد السياسي.
يبقى أن شباب العاصمة والمدن الكبيرة، وهم الذين كانوا وقود حركات الاحتجاج المعارضة للنظام، ليس من السهولة مخاطبتهم بلغة المذهب، وبأساطير التاريخ غير الموثق، وهؤلاء هم الذين يعتمد عليهم "الإصلاحيون" الساعون للتغيير بشكل أو آخر، وهذا ما ظهر في الطروحات التي قدّموها في أثناء الحملة الانتخابية، والتي ركّزت على "تعزيز الحرّيات، وخصوصاً حرّيات النساء، وحل مشكلات الشباب ومشكلات المعيشة، وتعزيز مكانة البرلمان في الحياة الداخلية". واللافت أن تلك الطروحات دعت إلى "خفض التوتر مع دول العالم"، فيما ركّز "المتشدّدون" على "التمسّك بتعاليم الشريعة، وتعزيز محور المقاومة، ومناهضة الهيمنة الأميركية"، وهي الطروحات التي قال عنها شاب معارض إنها "لا توفر الخبز، ولا تضمن الحرية".
وهكذا سيستمرّ الصراع بين المتشدّدين والإصلاحيين في المرحلة المقبلة، لكنه سيظل في إطار مناكفات محدودة تشبه ما رواه لنا صموئيل بيكيت في مسرحيته "الأيام السعيدة عن الحوار العبثي بين شخصيتي ويني المدفونة في الرمال وويلي الزاحف على يديه وقدميه حيث لا يصل الحوار إلى نتيجة". أما بالنسبة إلى العراقيين الذين يعانون من سطوة إيران وهيمنتها، فليسوا في وارد متابعة أخبار الانتخابات الإيرانية، لأنها لا تعني، بالنسبة إليهم، شيئاً، وإن كان يعتقد بعضهم أن أي تغيير في إيران سيعقبه بالضرورة تغيير في العراق، والتغيير في كلا البلدين مستبعد في الوقت الحاضر لأكثر من سبب.