حسن حنفي .. جيل ما قبل الثورات الديمقراطية

06 نوفمبر 2021
+ الخط -

رحل قبل أيام عن ساحة الفكر العربي والإسلامي المفكر المصري، حسن حنفي (1935-2021)، والذي كان من أبرز وجوه مرحلة "المواقف من التراث" ومرحلة "سؤال النهوض العاثر". لذا، الكتابة عن الأسماء البحثية المنتمية لهذه المرحلة، أو تأبينها، مساهمة في التأريخ للأفكار، والنظر في أثرها داخل البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية في تلك المرحلة وما تلاها إلى حدود ما قبل ثورات الربيع الديمقراطي في 2011، إذ تمثل هذه الأخيرة بنية لمرحلة جديدة.

تتناول هذه المقالة شخص حسن حنفي عبر ثلاثة أسئلة: الأول، وهو ليس تكرارا، من يكون حنفي؟ وحسب خلاصات علم النفس المعرفي، وسوسيولوجيا المعرفة، الرجل ممثل مرحلة ذات عنوان كبير، هو "قوة الحضور الإيديولوجي"، سواء قومية أو يسارية أو إسلامية، ولم نقل ليبرالية، لكونها كانت تعيش خفوتا داخل الأوساط الثقافية والفكرية والسياسية، بعد أن غالبتها الفكرة اليسارية وفشل مشاريع الإصلاح الوطنية في مراحل ما بعد الاستقلال، من دون نفي الدور البارز لصعود الضباط الأحرار، والفكر الناصري العسكري.

وهو ممثل أيضا لمرحلة ما قبل الثورات الديمقراطية الحالية، ما يعني تشرّبه فكرة الفشل أمام قهر الأنظمة المستبدّة، والتسليم بسطوة التخلف وفكرة الاندحار الحضاري. ولذلك، الكتابة في مرحلتهم، على الرغم من حماسة أصحابها في بداياتهم، كانت أشبه بالتجديف داخل التيار وليس في مواجهته، وهذا ما جعلهم يعقدون بالغ العزم على فكرة "العلاقة بالتراث" و"العلاقة بالماضي" و"العلاقة بالإسلام"، في تأكيد على المشكل المرتبط عند نخبتنا بماضيها وبالتراث الحضاري الإسلامي في كل أبعاده.

والسؤال الثاني: ما الذي يعنيه أن نكتب عن حنفي؟ من الأجوبة الأولى عن هذا السؤال، أن ذلك يعني الكشف عن بنية الذات الثقافية العربية وأهم شواغلها، وما كانت تعتقده عوائق تمنعها من بلوغ أهدافها. إذن، نحن، باحتفائنا بمثقفينا البارزين، نكشف السرديات الثقافية والمعرفية والسياسية الكبرى التي أطّرت مخيالنا ووعينا الجمعي العَالِم. والجواب الثاني، وعينا بأن الحكم بالفشل أو النجاح عند هؤلاء إنما هو قيمة نسبية، ليست ذات حقيقة إطلاقية في نظرنا، فحتى لو كتب كثيرون ممن ينتمون لهذا الجيل مقرّين بفشلهم، فنحن نراه إنجازا منسجما مع بناهم الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والتاريخية، فهم يمثلون محاولات "المفكّر" وجهوده في الخروج من الأزمة، ودوره الذي لم يأفل بعد في تحريك الفاعلين بشتّى أنواعهم. من دون أن ننفي عنهم صفة الفاعل السياسي باعتبار انخراطهم في أحزاب ومنظمات وحركات، بل كانوا فاعلين كبارا ومؤسّسين داخلها. وهي ميزةٌ أخرى ميّزت جيلهم. ومنه نفهم حيازة الكتابة الموجهة للفعل السياسي حصة مهمة من إنتاجاتهم وشواغلهم المعرفية.

حاول حسن حنفي في فكرة "اليسار الإسلامي" تحييد عنصر الكراهية العمياء، ذات الجذر الإيديولوجي الماحق

ومنه نصنف ما أنجزه حنفي في هذه الخانة، سواء فكرة "علم الاستغراب" أو "حاجتنا للتراث"، أو "اليسار الإسلامي". ودليلنا على أن ما قدّمه الرجل إسهام في الزحزحة نحو الأفضل من وجهة نظره، الأثر الذي خلفته فكرة "اليسار الإسلامي" عبر توطينها فكرة تقبل التجديد والاستفادة من المختلف في بناء الذات، عند الجيل الشاب للنخبتين اليسارية والإسلامية، والذي كانت له امتدادات مباشرة في بلدان عربية عدة (تونس، مصر..) وغير مباشرة (المغرب..).

وإذا كنا قد جعلنا من الثورات الديمقراطية التي تمت أخيرا مرحلة نصنف، من خلالها، الفرق بين الجيلين، فإن حنفي، رحمه الله، منتم من دون شك إلى مرحلة سابقة عن الثورات، ولو أتيح له معايشتها مبكّرا، لاختلفت كتاباته جدا، وهي فكرةٌ قد نصفها بأنها تحصيل حاصل، من الناحية الشكلية، ولكن في العمق؛ الثورات الأخيرة تعني استبطان أفق غير أفق مرحلة الإيديولوجيات، وغياب تأثير التكنولوجيات الحديثة على المشهد العام، فأفق كاتب اليوم يغيب عنه شيء اسمه البقاء والاستمرار، ففكرة التغيير صارت مرتبطةً باللحظات وليس بالسنين، وهو ما كان مُفتقدا في جيل حنفي ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وجورج طرابيشي وحسن الترابي وغيرهم .. إلخ.

وحتى لا نظلم مفكرنا الراحل، نجدنا مدعوين إلى التفكير في بعضٍ من طروحه المبدعة، والتي تميزت بجرأة بالغة، ونجاعة كبيرة. ونقصد فكرة "اليسار الإسلامي"، والتي حاول فيها حسن حنفي تحييد عنصر الكراهية العمياء، ذات الجذر الإيديولوجي الماحق. ونحن نلحظ حاجتنا لها اليوم، أمام الكراهية البالغة التي تُبديها أنظمة كثيرة تجاه الإخوان المسلمين كفيروس قاتل، لا محيد عن فكرة تدميره ومحوه. وفي المقابل، الكراهية ذات اللبوس الديني لليساري التقدّمي، واعتباره مساهما أساسيا في ما آلت إليه أوضاع عالمنا العربي.

الكتابة عن حنفي تعني الكشف عن بنية الذات الثقافية العربية وأهم شواغلها، وما كانت تعتقده عوائق تمنعها من بلوغ أهدافها

حنفي، بناء على تجربته، وما أدخلته جهوده الفكرية وجدّيته باحثا من تحوير على فكره، وما شهده كذلك من سجالٍ بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين، عنّت له فكرة التركيب بين ما يحتاجه كل طرفٍ من الآخر. وهي فكرة لا ننكر أثرها البعيد على الفكر، العربي والإسلامي، في علاقته بالتراث. ولن نقول نجاحها أو فشلها، ولكنها، دفعت كثيرين إلى التفكير بطرقٍ مغايرة، وهذا هو المطلوب الذي رغب فيه حنفي، وإنْ لم يكن راضيا عنه، ولكننا، نحن قرّاء ما كتبه، نلمس تأثيره بشكل جلي، إلى جانب رفقائه من أبناء تلك المرحلة الصعبة.

أما فكرة الاستغراب، فهي لا يمكنني أن أفهمها إلا باعتبارها دعوة إلى تحكيم الفكري والأكاديمي، فعلى الرغم من تصنيفنا حنفي ضمن جيل الإيديولوجية، فإنه كان يؤمن بالمحاولة في تحييدها أمام المعرفي، أو على الأقل المحاولة للسير في ذلك الطريق، وهو الذي تلمّس نجاح الاستشراق النسبي عبر الصرامة العلمية والبحثية التي طبعت إنتاجات أبرز أسمائه. والاستغراب، هنا، ليس ردّة فعل، كما يحسب باحثون عديدون، بل هو في نظر الكاتب تعامل مع التراث من الخارج، وانشغال مزدوج به، فهو بحث عن أجوبة لسؤال التراث، والدين، وسؤال النهضة العاثرة.

وتُختم المقالة هنا بأن الكتابة عن هذا الجيل مسألة لا غنى لنا عنها، لتحقيب أزمنتنا الفكرية، والتأريخ للأفكار داخل مجتمعاتنا، وفهم مسار العلاقة المركبة بين الفكري والاجتماعي والسياسي، وفهم علاقتنا بأنفسنا والتحوّلات التي طرأت عليها. ولذلك نحتاج دائما قراءة جديدة لفكر كل هؤلاء بناء على الانتماء لحقبٍ لا تفصل الفكري عن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.