حسابات الغرب بين حرب أوكرانيا ومباحثات فيينا
أعاد تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في 5 مارس/ آذار الحالي، خلط الأوراق، حين اشترط للتوقيع على المسودة النهائية لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني أن تقدّم واشنطن ضمانات مكتوبة بألا تشمل العقوبات، التي فرضها الغرب على روسيا على أثر غزوها أوكرانيا، علاقاتها التجارية المستقبلية مع إيران، وفرص الاستثمار فيها، وحجّة موسكو أن الأميركان هم من خرّبوا اتفاق 2015. فاجأ الطلب الروسي الأميركيين والأوروبيين، باعتبار أن روسيا المشاركة في مباحثات فيينا كانت، طوال الـ11 شهراً الماضية، من أكثر المتحمّسين لإتمام العودة إلى الاتفاق، وكذلك كانت في نسخته الأولى في 2015؛ فهي مستفيدة، كباقي الدول الموقّعة، من منع طهران من امتلاك القدرة على تطوير سلاح نووي، على المديين البعيد والاستراتيجي. لكن المغامرة الروسية في أوكرانيا، التي جعلت بوتين يواجه فيها مقاومة شرسة غير متوقعة وعقوبات اقتصادية غربية خانقة، أعطت أهميةً كبيرة لسلاح الطاقة، ولم يعد من مصلحة موسكو، في المدى المنظور، توقيع اتفاق فيينا، لأن رفع العقوبات عن طهران سيُدخِل مصادر الطاقة الإيرانية إلى الأسواق، ويساهم في طمأنة الدول المستهلكة للطاقة، ويخفّض ارتفاع أسعارها الذي تستفيد منه روسيا كثيراً.
إدارة بايدن مستعجلة على إنجاز اتفاق فيينا قبل الانتخابات النصفية للكونغرس، وهي تريد تخفيض التصعيد في الشرق الأسط من أجل التفرّغ لمواجهة كل من الصين وروسيا؛ لكنها رفضت، بشكل قطعي، المساومة الروسية التي عرضها لافروف، لتضع، ببرودة أعصاب، الكرة في ملعب إيران، التي عليها أن تعمل على إقناع حليفها الروسي، الذي لطالما دعم مطالبها في المفاوضات. بذلك تستفيد واشنطن من المطلب الروسي في تشكيل ضغط على إيران، لأنها لا تريد أن تستغلّ الأخيرة أزمة الحاجة، الأوروبية خصوصاً، لمصادر الطاقة وارتفاع أسعارها، لمصلحتها ضمن المفاوضات. أما طهران، فمن المنطقي أن تكون مستعجلةً لتوقيع الاتفاق، ورفع العقوبات عن اقتصادها وعودتها إلى السوق الدولية، ورفد خزينتها بالأموال اللازمة للقيام بالمشاريع الإنمائية، وبطموحها في التوسّع الإقليمي، وتحسين الوضع المعيشي في الداخل للتقليل من حالة الاضطرابات الداخلية. وقد امتلكت أوراق قوة خلال المفاوضات، باقترابها أكثر من امتلاك السلاح النووي، مع استمرار أجهزة الطرد المركزي في العمل وإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب والنقاوة، وتمكّنت من استبعاد موضوعي صواريخها الباليستية ومليشياتها التي تهدد الإقليم من التفاوض، ما جعل إسرائيل ودول الخليج العربي تعارض الاتفاق النووي مع إيران.
ترغب واشنطن أن يظلَّ سلوك طهران التخريبي في المنطقة ممسوكاً منها، وموجّهاً بالقدر الذي يحقق مصالحها
يتطلّع الاتحاد الأوروبي إلى إنجاز الاتفاق النووي في أسرع وقت للحصول على النفط الإيراني بديلا عن الروسي في المديين القريب والمتوسط، ويتطلع إلى الاعتماد على الغاز الإيراني في المدى البعيد، والذي يحتاج إلى بنية تحتية، ضمن استراتيجيته المستجدّة في السعي إلى تخفيض اتكاله على مصادر الطاقة الروسية إلى الثلث نهاية 2022. ذلك يعني تقديم الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أوراق ضعفٍ مستقبليةٍ لإيران باتكاله على مصادر طاقتها؛ لكن طهران ليست بالحليف الموثوق به لواشنطن وحلفائها الأوروبيين، بالنظر إلى توسّعها الإقليمي الذي يهدّد أمن إسرائيل والمنطقة عموماً؛ في حين ترغب واشنطن أن يظلَّ سلوك طهران التخريبي في المنطقة ممسوكاً منها، وموجّهاً بالقدر الذي يحقق مصالحها.
لم يفرض الغرب عقوبات على النفط والغاز الروسيين بسبب عدم قدرة دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً ألمانيا وهنغاريا وإيطاليا وهولندا، على الاستغناء عن واردات الطاقة الروسية. واشنطن أقل اعتماداً على مصادر الطاقة الروسية، تتطلع إلى فرض عقوباتٍ على قطاع النفط الروسي على الأقل، الذي يدرّ على روسيا ما لا يقل عن مائة مليار دولار سنوياً بين نفط خام ومشتقاته؛ بينما العقوبات على الغاز الروسي صعبة، لأن إيجاد بدائل عنه تحتاج سنوات لإنشاء بنية تحتية، وإلى كلفة مالية عالية. تتجه واشنطن إلى تحسين العلاقات مع فنزويلا ورفع العقوبات عنها للحصول مصادر الطاقة، وتهتم بتسريع التسوية في ليبيا للغرض نفسه، وهناك تقاربٌ في العلاقات مع قطر والإمارات، وتبحث عن سبل الضغط على السعودية لزيادة إنتاج النفط وتخفيض سعره. بدأت إدارة بايدن تبحث في كيفية إكمال الاتفاق النووي من دون روسيا؛ لكن هذا يحتاج مفاوضات جديدة مع الدول المشاركة، لتقوم بمهام موسكو ضمن الاتفاق؛ فروسيا كانت تلعب دوراً بارزاً في الاتفاق، في 2015، وفي مسوّدة إحيائه، في المستويات، القانوني والدبلوماسي والفني، فعلى عاتقها تقع مهمة إعادة هيكلة بعض المنشآت النووية الإيرانية الحيوية، بحيث لا تكون قادرة على إنتاج اليورانيوم عالي التخصيب، أو البلاتينيوم الممكن استخدامه في الأغراض العسكرية. ومن المفترض أن روسيا هي من سيستورد كميات اليورانيوم المخّصبة من إيران؛ وهذا يعني تعثر التوصل إلى الاتفاق في المدى القريب، وقد تحصل تفاهماتٌ ثنائيةٌ تكتيكية بين واشنطن وطهران، خصوصا أن الأخيرة مهتمة بتعزيز نفوذها في العراق وسورية ولبنان.
يتطلّع الاتحاد الأوروبي إلى إنجاز الاتفاق النووي في أسرع وقت للحصول على النفط الإيراني بديلاً عن الروسي
لن تذهب الصين بعيداً في دعم روسيا، وبالأصل الدعم الاقتصادي الممكن أن تقدّمه لها محدود، فهي لا تتلقى أكثر من 14% من إجمالي الصادرات الروسية، مقابل 45% تذهب إلى دول متحالفة مع الغرب وشريكة في العقوبات. والصين متضرّرة من العرقلة الروسية لتوقيع الاتفاق النووي، وتتطلع إلى الانفتاح العالمي على طهران، الذي يتيح لها تنفيذ عقود استثماراتها طويلة الأمد في إيران والبالغة 400 مليار دولار خلال 25 سنة. هذا يعني أن بكين تقف إلى جانب طهران في لحظة الافتراق الروسي الإيراني. ويمكن القول إن مصلحتها أكبر الآن في تحسين علاقاتها بالولايات المتحدة، وهذا يحصل بالفعل، على عكس ما كان يخطّط له بوتين، أن تدعمه الدول المعادية لأميركا والاتحاد الأوروبي في مغامرته في أوكرانيا. علاقة الصين بالولايات المتحدة علاقة تنافس اقتصادي وتكنولوجي، يؤطّرها النظام العالمي الامبريالي بشكله الليبرالي الجديد، الذي له الفضل بالأساس في صعودها؛ بالتالي، طموحات بوتين في تقويض هذا النظام، بمواجهة عسكرية، لا تعني بكين التي تبني قدراتها بهدوء وعقلانية، ولن تدخل في مواجهاتٍ عسكرية في هذه المرحلة، وحتى غزو تايوان مستبعدٌ في هذا التوقيت.
استعجل بوتين في مراهنته على دعم أصدقائه، فإضافة إلى الصين، كان يراهن على أن يكون لإيران، بعد إكمال الاتفاق النووي، دور في تهرّب روسيا من العقوبات، وراهن على دور مماثل لتركيا. بوتين يخسر، في نظر أصدقائه، حتى لو احتل كييف، وهذا يجعل هؤلاء يغيرون حساباتهم. في الواقع، كانت علاقات روسيا بالصين وإيران وتركيا وفنزويلا هشة وآنية، ولم تصل إلى درجة التحالفات التي يمكن للدول العظمى إنشاؤها، كحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، اللذين تجاوزا خلافاتهما فوراً لتوحيد الجهود مع واشنطن للتعاطي مع المغامرة الروسية في أوكرانيا.