حزب الله من تحرير فلسطين إلى "مشاغلة" إسرائيل
وقعَ ما كان لا بدّ منه في جنوب لبنان. رغم التعتيم الإعلامي الشامل، وصلت أخبار أهالي قرية رميش الحدودية، وهي بلدة مسيحية مارونية، ما زال يقطنها ستة آلاف من أبنائها، رغم المخاطر. يروي رئيس بلديتها، ومعه بعضُ سُكّانها، أنّ الأهالي هناك تنبّهوا منذ أيامٍ إلى حركة غريبة لسيارتَين مدنيتَين من دون لوحات، توقّفتا بزجاجهما الداكن أمام إحدى مدارس البلدة، وما أن اقترب منهما أحد المواطنين حتى تبيّن له أنّ فيهما "عناصر حزبية" تحمل صواريخ كورنيت تُريد نَصبَها في القرية. سارع المواطن إلى قرْع أجراس الكنيسة، وتقاطر الناس، وحضرت دورية للجيش اللبناني، أغلقت فور وصولها الطرق بالسواتر الترابية، وفصلت بين رميش وقرية عيتا الشعب الشيعيّة، بدعوى "منع المسلّحين من استخدام أراضي البلدة منصّة للقصف".
نفى حزب الله الحادثة، واعتبرها "أخباراً كاذبة وملفّقة"، وكذلك فعل إعلامُه "الملتزم"، ذلك أنّ الحادثة تحمل نقيض الرسالة التي يُوَدّ الحزب أن يصدّقها العالم، وهي أنّ الجميع معه في لبنان. وتطرح حادثة بلدة رميش سؤالاً عن جوارها المباشر؛ عن أهل الجنوب. ما رأيُهم بما يحصل لهم؟ هل هم موافقون، متحمّسون، راضون عن حرق قراهم وحياتهم؟ هل ما زالوا عند فكرة الحزب العزيزة أنّ "المشاغلة" هذه، كما حرب عام 2006، سترفع مكانة الحزب/ الشيعة، كما يروّج منذ عقود؟
إحصاء تلو الآخر يبيّن أن بقية اللبنانيين لا يريدون الحرب، في مقدمتهم المسيحيون ثم الدروز، فالسنّة. تمكّن حزب الله من إيجاد رغبة لدى بعض أحزاب السنّة، الجماعة الإسلامية تحديداً، أي الإخوان المسلمين اللبنانيين، بـ"دكاكين" مسلّحة في الجنوب يطلقون منها صواريخهم، لعلّ لهم بذلك أجراً في محاصصة مُقبلة بعد توقّف الحرب. أما باقي الأقليات، من طوائف صغيرة، وأفراد وفنانين وكتّاب، وبعضهم متحمسون لفلسطين، فلا يريدون هذه المشاغلة، وتنال منهم الكوابيس عندما يتخيّلون تطوّرها (المشاغلة) نحو حربٍ على غرار الهجوم الإسرائيلي على غزّة. اللبنانيون مرهقون، فالحزب قبل خوضه هذه المشاغلة قضى على الدولة ومؤسّساتها واقتصادها وأمنها، قايض الفساد العميم بـ"الحفاظ على سلاحه". وصارت الفوضى العارمة جزءاً من وجوده، رغم تفوّقه المسلّح وفرض إرادته على اللبنانيين، في السلم والحرب. تذّرع بتفوّقه الإقليمي بقتله السوريين حفاظاً على بشّار الأسد وحمايةً لمصالح إيران. وللمرّة الألف، عُقِدت علاقة التبعية بين الحزب وطهران، وصار واضحاً أنّه ليس هو من يأخذ القرار بتحويل المشاغلة إلى حرب. تأمره إيران بتنفيذ أجندتها أو بتجميدها أو بتأخيرها أو حتى بوقفها. أكثر من ذلك، إيران مطمئنة إلى الولايات المتحدة التي تدخّلت لمنع تحوّل المشاغلة إلى حرب، ويستقوي إعلام حزب الله بهذه "السكينة" المستجدّة بين أميركا وإيران، فيدافع عن نقطته الأساسية؛ سلاح الحزب، بالقول إنّ الجميع صار يعترف به: أميركا وأوروبا وإسرائيل وغالبية دول الخليج العربي. جميعُهم يقرّون بأنّ "سلاح الحزب ليس موضع نقاش".
عُقِدت علاقة التبعية بين حزب الله وطهران وصار واضحاً أنّ الحزب ليس هو من يأخذ القرار بتحويل المشاغلة إلى حرب
والمقارنة بين مشاغلة اليوم وحرب العام 2006 تسير في الركب نفسه. أبقت حرب 2006 السلاح في يد الحزب، واليوم أيضاً، سوف تُفضي النتيجة إلى النصر نفسه "التاريخي الإلهي الاستراتيجي"، وهو نصرٌ مكَّن الحزب من لبنان، وأفضى إلى ما نعيشه اليوم. كان هذا التمكين يقوم على صوتٍ عالٍ وعضلات، بل صار تقليداً أن يظهر الأمين العام دائماً بجرعة استقواء بخطابه التصعيدي المتكبّر، المسرور بخوف إسرائيل منه، فيعيد ويُحيي هيمنته على لبنان. وعبارة "أهون من بيت العنكبوت" لوصف ضعف إسرائيل وهزالها أمام جبروت صواريخه الدقيقة صارت شعاراً، كلمةً مأثورةً، ومن البداهات. أما الصلاة في القدس، فكان لها صورتها الأيقونة، ووعد أصحابها بـ"إزالة إسرائيل". منذ أربعة أعوام، يتصدّر بشّار الأسد وحسن نصر الله وقاسم سليماني وإسماعيل هنية وعبد الملك الحوثي، وغيرهم، الصلاة وخلفهم المسجد الأقصى، ووعد "سنصلي في القدس". منذ أسَّست إيران "يوم القدس" في آخر جمعة من شهر رمضان، يُحيي الوعد بإزالة إسرائيل والصلاة في القدس ليالي الجماهير المُصدّقة.
الأمثلة لا تنْضب عن تلك الثقافة التي عرزها حزب الله بين أبناء بيئته والبيئات الأخرى النظيرة. ففي معركته المحلّية مع خصمه "القوات اللبنانية"، وفي حادثة دموية وقعت قبل ثلاث سنوات في أحد أحياء بيروت، نفخ حسن نصر الله في روح سلاحه على الشاشة، وأعلن للمرة الأولى أنّ عدد مقاتلي الحزب "الجاهزين للقتال يبلغ مائة ألف، هذا غير الحلفاء والمنظمّات غير العسكرية".
خلال ستة أشهر، دمّرت مشاغلة الحزب البيوت الجنوبية وأرزاق أهلها (زيتون وتبغ)، هجّرت مائة ألف منهم، قضت على الماشية والمزروعات، أغلقت المدارس، قتلت حوالي 300 جنوبي غالبيتهم من أطر الحزب وبعض قياداته. وعلى بعد أميال، هناك مجزرة غزّة التي لم يوقفها كل هذا الاستنزاف. ينتظر الحزب أن يعامَل الجنوب الآن كما عومل في حرب 2006. والواقع أنّ هناك انقساماً شعبياً وحكومياً (حتى مع حكومة لحزب الله) بشأن أحقية أهل الجنوب بهذه المساعدات من دولة أعلنت إفلاسها، وعجزت عن التعويض على متضرري انفجار مرفأ بيروت قبل ثلاثة أعوام، وحزب الله هو أول المتهمين بالمسؤولية عن الانفجار، وأمينه العام هو الذي عطّل استمرار التحقيق فيه. مبالغ التعويض باهظة لا تلبّيها ميزانية الدولة، سواء تعلق الأمر بتعويضات المرفأ أو تعويضات الجنوب. أما المناهضون للحزب فحجتهم: "الدولة ليست مسؤولة عن الجنوب إنما المسؤول هو الحزب الذي أخذ قراراً بتشغيل آلة الدمار في الجنوب اللبناني".
ينتظر الحزب أن يعامَل الجنوب الآن كما عومل في حرب 2006. والواقع أنّ هناك انقساماً شعبياً وحكومياً (حتى مع حكومة لحزب الله) بشأن أحقية أهل الجنوب بهذه المساعدات
"وحدة الساحات" التي أُعلن عنها في بداية الحرب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تقلّصت إلى حدودها الدنيا. بشّار الأسد لم ينْبس ببنت شَفة بعد ضرب قواعد عسكرية إيرانية وسوريّة قرب مطار حلب. وزارتا الخارجية الإيرانية والروسية أدانتا الهجوم، كما لو أنه حصل في أراضيهما. المليشيات العراقية النظيرة خرجت من المعركة منذ ثلاثة أشهر، ولم نعد نسمع لها صوتاً، فيما يعطّل الحوثيون الملاحة الدولية بصواريخهم وقرصنتهم، وبضع رشقات باتجاه إيلات، وبيانات وحشد تظاهرات هائلة. ولا يبقى في "الساحة" إلا حزب الله يشاغل بمفرده ويتفاخر بأنّ كلّ المراسلين الدوليين لا يتفاعلون مع غيره. لكنّ الحزب اليوم أمام معضلة يمكن وصفها بالوجودية، فعليه، في أدنى تقدير، أن يسلّم سلاحه، ويطبّق قرار مجلس الأمن 1701، وينسحب من الجنوب. وفي أقصى تقدير، أن يُسلّم سلاحه للجيش اللبناني. في الهامش، بين الأقصى والأدنى، معركة فكرية مفادها أنّ سلاحه لم يعد له ما يبرّره، فيفقد بذلك شرعية السلاح واستقوائه به، لكنه يبقي عليه، من دون وظيفة مقنعة، وتصبح فكرتا تحرير فلسطين والصلاة في القدس جزءاً من ماض يجب نسيانه.
إذاً، إما تسليم السلاح أو خوض معركة انتزاعه على يد إسرائيل. وفي هذه الحالة، نحن وهو أمام كارثة إنسانية، ويتكرّر التاريخ هذه المرّة بغير ما سجّله كارل ماركس. فبدل أن يعيد التاريخ نفسه، مرّة على شكل مأساة ومرّة على شكل مهزلة، يعيد تاريخ لبنان نفسه مأساةً مرّتين، مرّة في عام 2006، وأخرى في حرب راهنة. لا، بل نحن ننتقل اليوم من تراجيديا 2006 إلى تراجيديا 2024، إن انتهت الحرب هذا العام.