حزب الإصلاح اليمني وتحوّلات السلطة
يحتلّ حزب التجمع اليمني للإصلاح موقعاً مركزياً في الخريطة السياسية اليمنية، إذ استطاع مراكمة مكاسبه عبر إدارة تموضعاته السياسية وحماية نفوذه مقابل تصدّع الأحزاب السياسية الأخرى. ومع تنوّع قاعدته الشعبية من القوى الدينية المتشدّدة إلى الوسطية، فإنّ سيطرة جناح تنظيم الإخوان المسلمين على القرار السياسي للحزب فرضته فرعاً نشطاً للتنظيم، ومن ثم يتقاطع معه في السياسات العامة والمصالح، فإضافة إلى الحماية السياسية التي توفّرها الدول الإقليمية الراعية له ولفروعه، بما في ذلك حزب الإصلاح، فقد تحصّل على مكاسب اقتصادية وإعلامية مقابل تبنّيه سياساتها الإقليمية، وكذلك تحوّله إلى ذراع عسكرية تنفذ أجنداتها، بيد أن مساوئ هذه العلاقة التبادلية لقوى ذات أيديولوجية واحدة لا تقتصر على مصادرة قراره الوطني لصالح القوى الإقليمية الداعمة للتنظيم، بل انكشافه في حال تغيّر سياستها حيال بعض القضايا الجوهرية، إلى جانب تأثّره بالتحدّيات التي يواجهها التنظيم وفروعه في المنطقة، تضاف إلى ذلك التحوّلات الحادّة في المشهد اليمني، الأمر الذي ضاعف من التحدّيات التي يواجهها حزب الإصلاح اليوم لتأمين موقعه السياسي والحفاظ على مكاسبه.
المسارات السياسية لحزب الإصلاح على مدى عقود فرضته قوة إسنادٍ للسلطات اليمنية المتعاقبة، فمن سلطة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، إلى شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، ظل حزب الإصلاح القوة التي تعضُد السلطات، مقابل امتيازات السلطة، وتجذير نفوذه داخل مفاصل الدولة اليمنية، فحتى مع تصدّره الحراك الشعبي في عام 2011، فإنه استطاع إدارته لصالح إسقاط صالح، وبقاء النظام ممثلاً بالقيادات الموالية له، بيد أنّ إسناده شرعية الرئيس هادي حوّلت "الإصلاح" إلى قوةٍ بلا منازع في سلطة المرحلة الإنتقالية، فيما شكّلت الحرب فرصة ثمينة لمضاعفة مكاسبه، فإضافة إلى حصوله على نصيب الأسد في منظومة الشرعية والمؤسسة الرئاسية مقارنة بالأحزاب الأخرى، فقد امتلك أذرعاً عسكريةً متنوعةً من مليشيات قبلية تتبع مشايخه، إلى السيطرة على ألوية عسكرية في مدينة تعز، إضافة إلى أن انتقال معظم النشاط الاقتصادي لقيادات "الإصلاح" إلى عواصم الدول الراعية للإخوان المسلمين، بما في ذلك الاستفادة من قنوات اقتصاد الحرب المحلي والإقليمي، وكذلك أنشطة جميعات الإغاثة والجمعيات الخيرية ضاعفت من تأثيره السياسي، فضلاً على أن هجرة معظم قياداته العليا والوسطى إلى خارج اليمن سوف ترفد الحزب بمكاسب عديدة، وإذا كانت تداعيات الأزمة الخليجية في السنوات المبكّرة من الحرب قد شكّلت تحدياً للحزب، فقد استطاع تجنّب خسائرها، باستمالة الإمارات، الدولة المعادية للإخوان المسلمين والمتدخلة في اليمن، بما في ذلك تنصلّه من علاقته بالجماعة، وكذلك تنويع قائمة حلفائه الإقليميين، بما في ذلك عُمان، بيد أنّ تعضيد حزب الإصلاح من الدول الراعية "الإخوان"، وفي مقدمتها تركيا، وفّرت له شبكاتٍ سياسية لتدعيم موقفه ضد مناوئيه، بما في ذلك منح قياداته جبهةً سياسيةً وإعلامية تدعم خطابه المحلي، كما أنّ تمتين علاقته بالسعودية التي يحظى بعلاقة تاريخية معها جعلته في موقعٍ آمن، وذلك من خلال تصدير نفسه قوة عسكرية قادرة على وقف تقدّم مقاتلي جماعة الحوثي، إلّا أنّ سياسة مسك العصا من الوسط التي يجيدها "الإصلاح" أربكتها تحدّيات أكثر حدّة.
حاول حزب الإصلاح حماية كيانه وسلطته، وذلك بتحييد خطابه الرسمي ضد دول الثورات المضادّة
شكّل تقويض سلطة الإخوان المسلمين في تونس انعطافة تاريخية في مسار صعودهم قوة صدّرتها ثورات الربيع العربي في المنطقة، ومن ثم استهداف مشروعيتهم خيارا ديمقراطيا للسلطة، ومع تأثر فروع جماعة الإخوان وأحزابها بتداعيات إسقاط التجربة التونسية، فإن حزب الإصلاح حاول حماية كيانه وسلطته، وذلك بتحييد خطابه الرسمي ضد دول الثورات المضادّة، وفي مقدمتها الدول الخليجية المنخرطة في حرب اليمن، مقابل تصدير قيادته الوسطى للدفاع عن ثورات الربيع، دعمه في ذلك أنّ قواته العسكرية التي تخوض حربا تحت مظلة قوى الثورات المضادّة ضد وكيل إيران، مكّنته من إدارة هذه المتناقضات لصالحه، إلّا أنّ تقارب الدول الراعية للإخوان والدول المعادية أربك المعادلة السياسية التي يتكئ عليها "الإصلاح"، ففي حين لم يؤثر التقارب القطري- السعودي على توازناته المحلية، وذلك لتمتعه بعلاقات تاريخية مع السعودية، فإن التقارب المصري - التركي والتركي – الإماراتي، وأخيراً التركي – السعودي، قلص من قدرته على المناورة، إذ قوّض الطروحات التي يتبنّاها "الإخوان" والدول الراعية لها حاملاً قسرياً لثورات الربيع، إضافة إلى أنّ السياسات التي اتبعتها تركيا، الحامي الأبرز للتنظيم، لتطبيع علاقاتها مع الدول المعادية للإخوان لم تضحِ فقط بمصالحه، وإنما بالقضايا التي عوّل عليها "الإخوان" لابتزاز خصومهم، وفي مقدمتها قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي الذي قُتل في السفارة السعودية في إسطنبول قبل أربعة أعوام، فقد أفضت التفاهمات التركية – السعودية، أخيراً، إلى طيّ صفحة مقتل خاشقجي، وذلك بنقل الولاية القانونية إلى السلطات السعودية، مقابل حصول تركيا على تمويلات مالية واستثمارية ضخمة، إضافة إلى تقييد السلطات التركية نشاط بعض القنوات الإعلامية التابعة للإخوان التي تتبنّى سياسة عدائية، والتي تبث من الأراضي التركية، لكنّ الأسوأ بالنسبة لحزب الإصلاح ليس الظرف الإقليمي المعادي للإخوان المسلمين، وإنما تضافره مع تغير السياسة السعودية في اليمن، والذي لم يكتفٍ بتحييد القوات التابعة للإصلاح وتصعيد القوة السلفية قوة مقاتلة ضد جماعة الحوثي في مطلع العام، وإنما فرض المجلس الرئاسي وإعادة توزيع نفوذ الوكلاء في السلطة.
شراكة "الإصلاح" مع المجلس الانتقالي الجنوبي قوّضت مزاعمه في الدفاع عن وحدة اليمن ضد القوى الانفصالية
فرضت سلطة المجلس الرئاسي لا بهدف إصلاح اختلالات السلطة الشرعية، وإنما لإشراك القوى المحلية من وكلاء السعودية والإمارات مقابل الحدّ من سلطة "الإصلاح"، إلى جانب أن التمثيل السياسي لرأس السلطة الرئاسية كان لصالح القوى المنافسة له، إذ إنّ فرض رشاد العليمي، الذي ينتمي لحزب المؤتمر الشعبي العام، رئيسا للمجلس، تضحية مُكلفة لحزب الإصلاح الذي كان يحتكر القرار السياسي للرئيس هادي، بما في ذلك إزاحة نائب هادي الفريق علي محسن الأحمر، الذراع العسكرية لحزب الإصلاح، ومع أنّه حظي بتمثيل في المجلس، وذلك بتعيين عبد الله العليمي، مدير مكتب الرئيس هادي سابقاً، نائباً في المجلس الرئاسي، فإنّه لا يشكل ثقلاً كبيراً في جهازه التنظيمي، إضافة إلى أنّ انضواءه في المجلس الرئاسي مع وكلاء الإمارات، الذين خاض حروباً ضدّهم، وضعه في سياق المساواة معهم على صعيد المشروعية، ومن ثم الاستحقاقات السياسية، كما أفقده أوراقه السياسية التي طالما راهن عليها لمضاعفة نفوذه، إذ إنّ شراكة "الإصلاح" مع المجلس الانتقالي الجنوبي قوّضت مزاعمه في الدفاع عن وحدة اليمن ضد القوى الانفصالية. كما أنّ قبوله بمشاركة العميد طارق محمد عبد الله صالح، ابن أخ الرئيس صالح، أي قوة الثورة المضادّة، في سلطة المجلس الرئاسي، كشف عدم مصداقية "الإصلاح" حزبا صدّر نفسه ممثلاً للثورة ضد نظام صالح، وهو ما يؤكّد انتهازيته وانتهازية الأحزاب عموماً، إلى جانب حرمانه من ورقةٍ سياسيةٍ اعتمد عليها لتكريس سلطته في مدينة تعز، إلا أن تنازل "الإصلاح" لضمان التمثيل في السلطة، وإن اعتبر ذكاءً سياسيا لحزبٍ اعتاد على تغيير جلده مع كلّ مرحلة، فإنّ التضحية بالرئيس هادي لا تعني فقط تضحيته بحليفٍ طالما مكّنه من السلطة، بل شرعية سلطةٍ جاءت وفق تسوية المرحلة الإنتقالية، والتي تحتلّ مركزية في الخطاب السياسي لحزب الإصلاح، لكنّ البراغماتية السياسية لحزبٍ ضحّى بكل المرجعيات التي خاض من أجلها حروب الشرعية ضد منافسيه، بما في ذلك التضحية بحليفه هادي، قد تنسجم مع السياسة العامة لحزبٍ لا يجد صعوبة في الشرعنة لأي سلطةٍ ما دام ضمنها، حتى لو فرضت من القوى الإقليمية التي تناهض الإخوان المسلمين، إذ حاول التحايل على أزمتة السياسية والأخلاقية، وذلك بتسويق شرعية السلطة الرئاسية، حتى لا يصنّف طرفاً يعرقل الإرادة السعودية، بيد أن هذه الازدواجية قد تنعكس على كيانه الداخلي أكثر من تعرية منطلقاته السياسية، وذلك بتعميق الانقسام بين أعضائه وموقفهم الرافض أو المؤيد السلطة الحالية، إلى جانب شرعنته هذه التحولات، ما قلّص من حضور رموز الجناح القديم، إذ حيّد رئيس الهيئة العليا لحزب الإصلاح، العقيد محمد عبد الله اليدومي، في الشأن السياسي العام، مقابل تصيعد القائم بأعمال أمين عام الحزب، عبد الرزاق الهجري، الذي يحظى بقبول الدول المتدخلة، بما في ذلك محاولة تقديم سياسة انفتاحية تجاه الدول المعادية للإخوان المسلمين، تماشياً مع السياسة التركية الحالية والدول الخليجية الداعمة للتنظيم.
الوضع العسكري، الذي أنتجته هدنة وقف إطلاق النار التي مُددت، فرض معادلة تموضع كلّ طرفٍ في منطقته
التحوّل من حزبٍ سياسيٍّ مطلق السلطة، وإن تحت مظلة الرئيس المنقلب عليه هادي، إلى قوة سياسية منضوية في توليفة المجلس الرئاسي مع قوى منافسة، يفرض على حزب الإصلاح تحدّيات عديدة، فمن تنامي نشاط "المؤتمر الشعبي"، جناح الرئيس صالح، الذي يتكرّس قوة منافسة له في مدينة تعز، إلى طبيعة توزيع السلطة داخل المجلس الرئاسي، بما في ذلك خصمه المجلس الانتقالي الجنوبي، فضلاً عن التغييرات التي قد تطاول مؤسّسات الجيش، والتي قد تشكّل تحدّيا آخر لحزب الإصلاح، إلى جانب سياسيات المجلس الرئاسي، المحلية والإقليمية، بما في ذلك علاقته مع الدول المعادية للإخوان المسلمين، والتي قد تفرض على "الإصلاح" تبنّي سياسة أكثر مرونةً، بما في ذلك تهيئة أعضائه لذلك، على أنّ حزب كلّ السلطات، على مدى عقود، يستطيع التكيّف مع التحوّلات، إذ يعوّل "الإصلاح" على حاجة رئيس المجلس الرئاسي لقوة إسناد سياسي وعسكري تعزّز سلطته، وهي الوظيفة التاريخية التي يجيدها الحزب، وحتى في حال تأخر هذا التنسيق أو استبعد لأسبابٍ عديدة، فإن الوضع العسكري، الذي أنتجته هدنة وقف إطلاق النار التي مُددت، فرض معادلة تموضع كلّ طرفٍ في منطقته، ما يعني احتفاط "الإصلاح" بموقعه سلطة أمر واقع في مدينة تعز، وضمان بقاء أذرعه العسكرية، وقبلها العمل بمبدأ التقية التي طالما اعتمدتها جماعات الإسلام السياسي، ومنها جماعة الحوثي، في التحوّلات التاريخية لحماية نفسها من الاستهداف، بما يمكّنها من استئناف دورات التمكين في السلطة.