حروب لم يفجّرها ترامب
لم يشن دونالد ترامب حرباً أميركية في الخارج، لكن العديد من الحروب اندلعت قبل أسابيع من رحيله. الكلام هنا لا يحيل إلى الحرب الاقتصادية الكبرى التي أعلنها الرجل ضد الجميع، حلفاء كانوا أم خصوماً، ولا عن الانقسام الأميركي الأهلي الذي يلامس حد الاشتباك، بل عن المعارك العسكرية التي تعود بالمصطلح إلى معناه الحرفي من دون مجاز أو استعارة.
كأن المعنيّين بحربَي ناغورنو كاراباخ وإثيوبيا، وبمشروعَي حربَي الصحراء وكشمير، كانوا يعدّون العدّة منذ أربع سنوات لحسم اشتباكاتهم المعلقة فور بدء مرحلة العد العكسي لمغادرة ترامب، ودخوله مرحلة "البطة العرجاء" الفاصلة بين تسلمٍ وتسليمٍ في البيت الأبيض. ذلك أن إدارة ترامب التي تعمل في السياسة بمنطق تاجر رخيص لبضاعة أرخص، حسمت قرارها باكراً بأنها لن تضيف في سجلها حرباً أميركية على اللائحة الطويلة، ولا حتى مع إيران أو مع كوريا الشمالية أو فنزويلا، توفيراً للمال واعتقاداً منها بأنه يمكن تحقيق الأهداف الأميركية للحرب بوسائل أخرى أقلّ كلفة: العقوبات الاقتصادية فالحصار، ثم إغراق الساحات بحروب استنزافٍ للحلفاء والوكلاء الإقليميين قبل الأعداء، وجعل الاستنزاف ذاك باباً لابتزاز أميركي يصعب إغلاقه، مثلما كان الحال في استمرار حروب اليمن وليبيا وأوكرانيا وسورية، وإلا الانتقال إلى مرحلة إنهاء الحرب وتحميل وزر الخسارة إلى الرؤساء الأميركيين السابقين الذين شنّوها، وإلى أطراف إقليمية تدفع الثمن المباشر للاقتتال، أفغانستان نموذجاً.
هكذا، يصعب قراءة الحروب التي اشتعلت في الأسابيع الماضية، وتلك التي تندلع ربما من اليوم حتى تسلم جو بايدن الرئاسة بعد تسعة أسابيع، كأنها محض مصادفة، ولا كمجرد لعنة تفيد بأن تدخل أميركا في شؤون بلدان العالم مصيبة، وعدم تدخلها مصيبة أيضاً. هذا النوع من المعادلات الصفرية جعل من الأذريين، ومن خلفهم الأتراك، يستغلون الفرصة لإنهاء ملف عمره عقود لمصلحتهم، مستغلين غض طرف أميركياً يضحك في سره من حيرة فلاديمير بوتين حيال رئيس وزراء أرميني (نيكول باشينيان) وصل إلى السلطة تحت شعار استعادة استقلال منتهك من الروس، فلا موسكو دعمته في حربه، ولا كانت قادرةً على أكثر من نشر قواتها في الإقليم المتنازع عليه، باتفاق يكرّر مشهداً سورياً عنوانه "الدول الضامنة" مع تركيا. كذلك حال الإثيوبيين الذين استفزّهم دونالد ترامب في موضوع سد النهضة واختيار ديكتاتوره المفضل عبد الفتاح السيسي على حساب الزميل المفضل لمايك بنس في العقيدة الإنجيلية، رئيس الوزراء آبي أحمد، فقرّروا انتهاز فرصة الرحيل القريب لساكن البيت الأبيض وفقدان مسلحي إقليم تيغراي أي عمق إقليمي أو دعم أجنبي واضح المعالم، ليصبح صاحب "نوبل للسلام" (آبي أحمد) رمز حرب أهلية دموية في انتظار مصير سد النهضة في عهد جو بايدن. جميعها حسابات لا تنطبق على التوترات الأبدية بين البلدين النوويَّين، الهند وباكستان، الممنوعين من البوح بالكره المتبادل بينهما وترجمته إلى ما يتعدى الاقتتال الموسمي المحدود ببقعة جغرافية ضيقة من كشمير وخلال أيام معدودة، وهو ما يُحتسب من "أفضال" امتلاك السلاح النووي الرادع.
غالباً ما تُرمى مسؤوليات العجز عن حل النزاعات داخل البلدان الفاشلة، وفي ما بينها، على حضور الدور الأميركي والغربي عموماً، أو على غيابه، وذلك منذ شطب الأيدي السوفييتية من المعادلة. حتى ولو كان في تلك المقولة شيء من الصواب، لكنها تغفل جوانب فادحة وفاضحة. الحرب، كإحدى تجليات فشل بناء الدول الحديثة والتحول الديمقراطي والتنمية والمواطنة والعدالة الاجتماعية، أكبر من أن تُختصر بعقليةٍ مؤامراتيةٍ ترسم علامات السخرية على وجوه حكام الغرب. الإخفاق في بناء الدول وصفة لاستمرار الحروب الأهلية واقتتال الفقراء باسم حقل رعي هنا وهوية دينية أو قومية هناك، وذلك بوجود دونالد ترامب أو غيره، بحضور استعمار وإمبريالية أو من دونهما.