حرب بلا أفق: هل أصبح الغرب الأوكراني آمناً؟
صرّح الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في مقابلة مع "أسوشييتد برس" في الخامس من الشهر الماضي (مايو/ أيار الجاري)، وهو الحليف الأقرب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي نسّق معه المناورات والخطط العسكرية على الحدود قبل إعلان الحرب على أوكرانيا: "لست منغمسًا في هذه المشكلة بما يكفي، لأقول ما إذا كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تسير وفقًا للخطة، كما يقول الروس، لكن أريد أن أؤكّد مرةً أخرى شعوري بأن هذه العملية قد طال أمدها". رغم صيغة النأي الدبلوماسية بشأن عدم الاطلاع الكافي على الخطة العسكرية وتفاصيلها ومآلاتها، إلا أن لوكاشينكو قد ضمّن، في عبارته، أن المدة التي وُضعت قد تجاوزت أمدها المقرّر. وفي ظن صاحب هذه المقالة، وظن مراقبين أوكرانيين وغربيين، اطلع لوكاشينكو على الخطة الأولى للعملية العسكرية، ورافق بوتين في كل جولاته واجتماعاته، فلا يعقل أن تنطلق القوات العسكرية الروسية من أراضيه كي تحاصر كييف وتشرنيغف وغيرها من أراضٍ أوكرانية ولا يكون مطلعًا أو لا يكون له رأي في أهدافها، بل إنه كان على علم بساعة الصفر، مثل أي جنرال روسي في الجبهة، حيث وصف لوكاشينكو بوتين بـ"الأخ الأكبر"، وقال إن الزعيم الروسي ليست لديه "علاقات أوثق أو أكثر انفتاحًا أو أكثر وديةً مع أيٍ من قادة العالم بخلافه هو".
وعليه، يبدو أن الحرب الروسية على أوكرانيا دخلت في مرحلةٍ جديدة مختلفة عن سابقتها، وواضحٌ أن الدور البيلاروسي في الحرب قد تقلّص، أو ربما جرى الاستغناء عنه مؤقتًا أو كليًا، وهذا يعني أن كييف وتشرنيغف وغيرها من مدن جنوب الحدود البيلاروسية الأوكرانية قد باتت آمنة. إذ مثلت هذه الحدود، في المرحلة الأولى من الحرب، منبع الخطر من اجتياح روسي شامل لأوكرانيا، يمتد من الشمال باتجاه الغرب. وكان القلق يساور سكان مقاطعتي رفينو وفولين الأوكرانيتين الواقعتين على الحدود البيلاروسية، والمسافر إلى تلك الأقاليم يرى بعينيه الخنادق والدشم التي تملأ الشوارع الرئيسية والطرقات، والأجسام التمويهية ذات الطابع الحربي، وكذلك الحواجز العسكرية التي تفتش السيارات المارّة، وتتفحص بطاقات الهوية وجوازات السفر، وكذلك الأمر عند الاقتراب أكثر من خط الحدود، حيث تُرى فوهات المدافع والدبابات المتجهة شمالًا نحو بيلاروسيا.
تستمر الحرب في حصد أرواح أبناء الطرفين، فيما الاقتصاد الأوكراني يكاد ينهار، والمدن الأوكرانية في الشرق تتعرّض للدمار
السؤال هنا: هل تغيّرت الخطة، بحسب ما يتناقله سكان الشمال الغربي، بل والغرب الأوكراني عمومًا، بسبب تمرّدٍ حصل في قطاعات الجيش البيلاروسي في الأسبوع الثاني للحرب، حيث تشير الأخبار التي يتداولها سكان الشمال الغربي الأوكراني في ما بينهم، ومصدرها جيرانهم في مدن جنوب بيلاروسيا، إلى أن البيلاروس "منعوا قوات من بلادهم كانت متّجهة باتجاه أوكرانيا من العبور". هذه الحكايات الإخبارية يجري تناقلها بشكل كبير في هذه الأنحاء من أوكرانيا، ولا يمكن التأكد من صحتها فهي لم تُنشر عبر وسائل الإعلام، بل تنتقل من شخص إلى آخر. لكن المؤكّد أن هناك معارضة واسعة لحكم الرئيس البيلاروسي في بلاده، وقد عبّر المواطنون البيلاروس في مظاهراتٍ عديدة خلال السنوات الماضية عن رفضهم حكم الرئيس لوكاشينكو الذي نعتوه بالدكتاتور. وقد استضافت أوكرانيا قبل الحرب، وما زالت، فئةً كبيرة من معارضي لوكاشينكو الذين سيّروا مظاهراتٍ حاشدة في العاصمة الأوكرانية كييف، مُطالبةً برحيله، وقد جرت تصفية أحد هؤلاء القادة المعارضين، وهو الناشط البيلاروسي فيتالي شيشوف، الذي عُثر عليه مشنوقًا في إحدى حدائق العاصمة الأوكرانية، وفق ما أعلنت عنه الشرطة التي فتحت تحقيقًا في جريمة قتل، فيما حمّلت منظمة يرأسها نظام الرئيس لوكاشينكو مسؤولية قتله.
التساؤل الذي يطرحه اليوم سُكّان مدن الغرب الأوكراني: بعد الانسحاب الروسي من محيط كييف وتشرنيغف (نتيجة ما يعتقدون أنه هزيمة روسية بفضل المقاومة الأوكرانية الباسلة)، ورفض مواطني بيلاروسيا وعناصر من جيشها المشاركة في القتال، هل تُنقذ مدنهم وقُراهم من ويلات الحرب؟ القراءة الأولية تقول نعم، حيث أصبح الهدف الروسي المعلن من العملية العسكرية يتلخص في السيطرة على إقليم دونباس ومناطق بحري آزوف والأسود؛ أي أن المعارك البرّية لن تطاول تلك الأقاليم، لبعدها عن مناطق المعارك التي حدّدتها روسيا، أي القريبة من حدودها، خصوصا الناطقة بالروسية ومناطق الجنوب الأوكراني التي معظم سكانها يتحدثون بالروسية أو بخليط لغوي وقومي روسي - أوكراني يُطلق عليه "السورجو"، حيث يصرّ الكرملين أن الهدف من العملية إنقاذهم من بطش المتطرّفين الأوكرانيين.
إلى أن يتضح أفق العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا في المرحلة المقبلة، والتي يبدو أنها تتغير بحسب الظروف والنجاحات العسكرية، فإن ما يمكن تسجيله من تجوّلنا في مناطق الغرب الأوكراني أن تلك الأقاليم، خصوصا فولين، تعيش حالة من السلام الكامل، لا تقطعه إلا صفارات الإنذار في أحيانٍ قليلة، أو حادثة قصف مطار العاصمة لوتسك، ما تسبّب في مقتل عددٍ من المدنيين، أو وصول جثامين لبعض قتلى الجيش الأوكراني إلى عائلاتهم، أو أخبار يتناقلونها في ما بينهم عن مصائر أبنائهم في الجبهة، بعضهم جُرح، بعضهم يتحدّث عن قتال شرس، وآخرون يتحدّثون عن الحنين بالعودة إلى زوجاتهم وأبنائهم، ويلعنون حرب بوتين على بلادهم.
هجرة كبيرة للاجئين من كييف ومناطق الشرق والوسط إلى قرى الغرب ومدنه، بعضهم من الأثرياء
يُلاحظ في الأقاليم الغربية أيضًا وجود هجرة كبيرة للاجئين من كييف ومناطق الشرق والوسط إلى قرى الغرب ومدنه، بعضهم من الأثرياء الذين استأجروا فللا ريفية، أمّا الآخرون فوزعتهم الدولة على المنتجعات والفنادق الفارغة من الرواد، كون العام لن يشهد موسمًا سياحيًا. والمحلات التجارية لم تُغلق في فترة الحرب ولا ندرة في المواد الغذائية، مع أن الملاحظ أن أغلب البضائع تأتي من الجارة بولندا لتسدّ النقص الحاصل نتيجة توقف المصانع، لكن الزراعة والإنتاج الحيواني مستمران، فالمزارعون أخذوا في استصلاح أراضيهم في تلك المناطق مع حلول فصل الربيع وارتفاع درجات الحرارة الملائمة لزراعة الذرة وعبّاد الشمس والفراولة وغيرها. وما لوحظ أن نساء أوكرانيات كثيرات يذهبن للعمل في بولندا في هذا الوقت من السنة في جني الثمار وتعليبها أو في أعمال أخرى، وكذلك كان يفعل الرجال قبل الحرب، لكن مع الحرب مُنعوا من مغادرة البلاد للدفاع عنها.
وفي ظل الصراع على من هو الأصل ومن هو الفرع؛ الروسي أم الأوكراني، تستمر الحرب في حصد أرواح أبناء الطرفين، فيما الاقتصاد الأوكراني يكاد ينهار، والمدن الأوكرانية في الشرق تتعرّض للدمار، والأطفال يغادرون لاجئين بلا آباء أو أمهات، وكبار السن يهيمون على وجوههم من دون مأوى. ما زال الأوكرانيون في الغرب يردّدون، في تحياتهم، إلى بعضهم أو يضعون نغمات رنين لهواتفهم عبارات مغناة مثل: "مساء الخير نحن من أوكرانيا" و"المجد لأوكرانيا، المجد للأبطال".
حربٌ بلا أفق، حياة قلقة وانتظار، هذا حال سكان الغرب الأوكراني. وعلى الرغم من أخبار وتطمينات، تبقى العين على الحدود مع بيلاروسيا، فهي، وفق تحليلاتهم، مكمن الخطر الذي تستطيع روسيا من خلاله غزو مناطقهم، ويبقى الشباب ممن لم يذهبوا إلى الحرب بانتظار استدعائهم، بينما النساء يَعملن في مساعدة قوات الحماية المحلية كطباخات ومساعدات وممرضات وغيرها من الأعمال، في انتظار عودة أبنائهن وأزواجهن وأحبتهن بسلامٍ رفقة نصر مؤمّل.